يعتبر كتاب "النبي" (١٩٢٣) لجبران خليل جبران حجرَ زاوية في الأدب الفلسفي الحديث، حيث يتجاوز الحدود الثقافية واللغوية والزمنية. كُتِبَ هذا العمل باللغة الإنجليزية بأسلوب نثري شعري، من قِبَلِ الشاعر والرسام والفيلسوف اللبناني الأمريكي، جامعًا بين التصوف الشرقي والرومانسية الغربية والبحث الوجودي في سرد تأملي. من خلال شخصية "المصطفى"، الذي يمنح الحكمة حول أسئلة الحياة المصيرية قبل مغادرته مدينة أورفاليس التي اتخذها موطنًا، يصوغ جبران إنجيلًا كونيًا ينطق بوضع الإنسان. تبحث هذه المقالة النقدية في كتاب "النبي" من خلال عدسات أدبية وفلسفية واجتماعية تاريخية، مُحلِّلة بنيته ومواضيعه وإرثه الدائم. بوضع النص ضمن هوية جبران وحركة العولمة في أوائل القرن العشرين، يكشف التحليل كيف يعمل هذا الكتاب على تجسير الثنائيات — الشرق والغرب، الروح والعقل، الفردية والجماعية — لتقديم رؤية إنسانية للوحدة.
-تلخيص الكتاب.
في مدينة أورفاليس الوهمية، حيث تتلاطم أمواج البحر بأسئلة الوجود، يقف "المصطفى"، النبي الغريب، مُنتظرًا سفينةً ستعيده إلى وطنه الأم بعد اثني عشر عامًا من المنفى الاختياري. لكن أهل المدينة، الذين أحبّوه كظلٍّ لحكمةٍ غائبة، يطلبون منه أن يورثهم إرثًا من الكلمات قبل الرحيل. هكذا تبدأ حكاية "النبي"، ذلك العمل الذي يُشبه مرآةً مُعلَّقة بين الأرض والسماء، تعكس للقارئ وجوه الحب والموت والحرية والوجود، مُحوِّلةً الفلسفة إلى شعر، والشعر إلى صلاة.
يُقدِّم جبران، عبر ستة وعشرين فصلًا نثريًا، مواعظَ المصطفى التي تُجيب على أسئلةٍ طرحها عليه سكان أورفاليس، كأنما هم البشرية جمعاء. كل سؤالٍ يُلامس جانبًا من الحياة: من الزواج إلى الأطفال، ومن العمل إلى الفرح، ومن الجريمة إلى الروح. لكن الأجوبة ليست خطبًا مُعلَّبة، بل نوافذ تُفتح على عوالم الروح والطبيعة. عندما تسأله امرأة عن الحب، يقول لها: "الحب لا يمنح إلا ذاته، ولا يأخذ إلا من ذاته". وعندما يستفسر صياد عن العمل، يُجيب: "تعمل كي تسير مع الأرض وروح الأرض". هكذا تتحول المفاهيم المجردة إلى كائناتٍ حية تتنفس بين السطور.
الكتاب ليس مجرد مجموعة نصائح، بل سيمفونية من التناقضات التي تبحث عن الانسجام. ففي حديثه عن الزواج، يرفض المصطفى فكرة الامتلاك: "ليكن في جماعكم فسحات… فتقفون معًا ولكن لا تقتربون كثيرًا"، وكأنه يرى في المسافة بين الأرواح شرطًا للقائها. وفي حديثه عن الألم، يدمج بين الجرح والفرح: "ألمكم هو كسر القشرة التي تُحيط بفهمكم"، مُذكِّرًا بأن المعاناة ليست عدوًّا، بل رسولٌ من رسل النمو. حتى الموت، ذلك الغامض، يصبح في كلماته "الوقوف عاريًا في الريح والذوبان في الشمس"، تحررًا من قيود الجسد لا نهايةً للروح.
لكن جبران لا يكتب من فراغ. هو ابن الشرق المُعلَّق بين جبال لبنان وأزقة بوسطن، يحمل في نثره بصمة التصوف الإسلامي، وحِكَم الكتاب المقدس، وروح الفلسفة الرومانسية الأوروبية. إنه ينسج خيوطًا من شعر الرومي، وتمرد نيتشه، وهدوء بوذا، ليصنع منها عباءةً فكرية تليق بإنسانٍ كوني. لغة الكتاب — بجمالها المُكثف — تُحاكي الموسيقى: جملٌ قصيرة كأنها أنفاس، واستعاراتٌ تسبح في فضاءاتٍ مفتوحة، مثل قوله: "أنتم القوس الذي يُرسل عنه أولادكم كسهام حية"، حيث يتحول الأبوان إلى أداةٍ لقذف الحياة نحو المستقبل.
ورغم أن الكتاب نُشر عام ١٩٢٣، إلا أنه يُخاطب قضايا العصر الحديث بحدّة: صراع الفرد بين حريته ومسؤولياته، واغتراب الإنسان في عالمٍ مادي، والبحث عن معنًى في كونٍ لا يُجيب. قد يرى البعض في نبرته المثالية نوعًا من السذاجة، لكن ثمة عمقًا تراجيديًا يختفي تحت سطح التفاؤل. فالمصطفى، وهو يغادر أورفاليس في النهاية، لا يحمل معه إجاباتٍ نهائية، بل يترك وراءه أسئلةً تتدحرج كأمواج البحر، تُذكِّرنا بأن الحكمة ليست محطة، بل رحلة.
هذا الكتاب، الذي تُرجم إلى أكثر من مئة لغة وبيعَت منه ملايين النسخ، لم ينجُ من النقد. اتهمه البعض بالسطحية أو الإفراط في الروحانية، بينما رأى فيه آخرون مرجعًا للثوار الروحيين من غاندي إلى مغنيي الروك. لكن قوته تكمن في قدرته الغريبة على أن يكون كل شيءٍ لكل الناس: قصيدةً للعشاق، ومرجعًا للفلاسفة، وصلاةً للهاربين من ضوضاء العالم. إنه ليس كتابًا يُقرأ، بل كتابٌ يُختبر، كمن يغوص في محيطٍ ليجد نفسه في كل قطرة ماء.
هكذا، عبر كلماتٍ تُلامس الروح قبل العقل، يصنع جبران عالمًا حيث الحكمة ليست ملكًا للأنبياء وحدهم، بل هي بصمةٌ إلهية في كل إنسان. "النبي" ليس مجرد كتاب، بل هو نداءٌ خالدٌ من الماضي إلى الحاضر: أن ننظر إلى الحياة ليس كمسيرةٍ نحو الموت، بل كرقصةٍ مع الوجود