أعتقد أنني قابلت المختار ولد اجاي لأول مرة خلال القمة العربية في نواكشوط عام 2016. كان لقاءً عابرًا عند المدخل الرئيسي، ومع المصافحة خاطبني قائلًا:
“تابعتك في ليبيا وتونس ودول الساحل، وأحييك لأنك موريتاني ناجح في عمله.. واصل.”
شكرته على لطفه وحسن استقباله، وأثّرت في نفسي لياقته وخلقه الرفيع، إذ أبدى المودة والتشجيع دون معرفة سابقة، وفي أجواء مشحونة لا داع للعودة إلى تفاصيلها.
بعد سنة أو سنتين، ذهب وزير الاقتصاد والمالية الصاعد إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد تواصلتُ من تونس مع مستشاره الإعلامي، زميلي وأخي العزيز أحمد ولد محمدو، لإبلاغه بالرغبة في ترتيب مقابلة مباشرة مع أحد البرامج.
لم يتأخر الرد، وأُبلغتُ بالموافقة، ووفى ولد اجاي بوعده رغم ازدحام جدول أعماله عشية انتخابات تشريعية ساخنة.
كان طلب قسم المقابلات بمثابة اختبار لقدرتي على جلب ضيوف مهمين من كبار مسؤولي الدولة، في ظل توتر العلاقات مع السلطة والتهديد المتكرر بسحب الاعتماد.
أسرد هذه التفاصيل الصغيرة للإشارة إلى نقطة جوهرية، وهي أنه فيما يمر الكثير من الوزراء دون أثر – عدا السرقات وخيانة الأمانة ونكران جميل رؤسائهم السابقين وشعوبهم، والثراء غير المشروع من المال العام – يتميز ولد اجاي بقدرته على العمل لترك بصمة في أمكنة مختلفة واستغلال الثقة والصلاحيات الممنوحة له لخدمة النظام الذي ينتمي إليه، وأيضًا لخدمة وطنه ومواطنيه.
الوزير الأول، بشخصيته القوية وروح المبادرة التي تطبع نهجه، يفعل الشيء نفسه في مسارات أكثر جوهرية من تلك التي تقاطع فيها عمله مع مهامي في موريتانيا.
لقد تفادى، بحسّه السياسي وشعوره بالمسؤولية وقدرته على الانفتاح، التفريط في فرصة ثمينة للظهور في منبر يعلم أنه موجه للنخب المؤثرة وصنّاع القرار السياسي والاقتصادي في العالم العربي، وخاصة في الدول التي تحتضن المؤسسات والصناديق الممولة لمشاريع التنمية في بلاده.
يُتّهم ولد اجاي من طرف خصومه بالنفاق، لكنه في نظر مؤيديه ومعاونيه رجل دولة شجاع وواضح في الدفاع عن السياسات التي يُطلب منه تنفيذها، وعن المواقف التي يؤمن بها.
وعمومًا؛ فإن المكانة التي وصل إليها في هرم السلطة التنفيذية منذ آخر انتخابات تشريعية، سعى إليها المئات من الأطر التكنوقراط والسياسيين، وقد وصل إليها بطموحه واجتهاده وكفاءته ووطنيته. إنه يفعل ما يراه صوابًا في خدمة المصلحة العامة أو دعم النظام السياسي الذي ينتمي إليه، ليصبح من ركائز استقراره. وبهذا، لا يخدم شخصًا بقدر ما يخدم دولته.
لا شك أن المختار ولد اجاي شخصية جدلية، وقد وُجّهت إليه اتهامات خطيرة بالفساد، ما يفسر انقسام الموريتانيين حوله، حتى داخل الأغلبية البرلمانية.
ومن الطبيعي أن يكون عمله وسياسات حكومته محل نقاش عام، وأن تتكرر الانتقادات الحادة الموجهة إليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فهو لم يجلس بين ذويه في مقطع لحجار يتابع الأخبار، بل تصدّى للشأن العام، وتصدر المشهد الحكومي والسياسي، وأصبح بفضل طموحه ونشاطه من أبرز وجوه الأخبار والقرارات السياسية والاقتصادية في البلاد.
اجتمعتُ بولد اجاي في البحرين على هامش قمة المنامة العام الماضي، وتواصلتُ معه خلال وجودي في باريس أثناء زيارة رئيس الجمهورية لفرنسا الصيف الماضي، غداة الانتخابات وقبل تنصيبه لولاية ثانية.
استقبلني، بناءً على طلبي، زهاء ساعة ونصف في مقر إقامة الوفد الرئاسي. استمعت إلى وجهة نظره ورؤيته، ولاحظت اهتمامه بالإنصات أكثر من الحديث.
وعندما سألته عن أولويات مشروعه، ابتسم وقال:
“ليس لدي مشروع، أنا أحد معاوني فخامة الرئيس، ومشروعي هو نجاح برنامجه للمأمورية الثانية.”
أعتقد أن ولد اجاي رجل دولة جدير بالاحترام، يمتلك قدرة على الاستماع إلى جميع الآراء واستيعابها. كما لاحظتُ سعة اطلاعه وفهمه العميق للقضايا الإقليمية والدولية، ووعيه بالمخاطر التي تهدد أمن موريتانيا القومي، في ظل الفوضى في الساحل الإفريقي، والاستقطاب الإقليمي والدولي، والنزاعات المحيطة بالبلاد.
إلى جانب هذه التحديات، يتحدث ولد اجاي أيضًا عن فرص هائلة. وسمعتُ أنه يذهب إلى مكتبه باكرًا، وأحيانًا لا يغادره إلا قبل منتصف الليل.
لكن في رأيي، لن تستفيد موريتانيا من طفرة المعادن والغاز، وانتعاش قطاع الصيد، ونجاحات شركة “سنيم”، والمليارات من الهبات والقروض والمساعدات، ما لم يتم لجم المفسدين الذين يلتهمون المال العام بسبعة أمعاء.
ولد اجاي بحاجة إلى ديناميكية دبلوماسية لتعبئة الموارد المالية اللازمة لتنفيذ برنامج الرئيس، ويبدو – حتى الآن – أنه يعمل بنسق سريع وجيد.
كما علمتُ أنه يعارض اللجوء إلى صفقات التراضي، ويمارس ضغوطًا على الأمناء العامين والمديرين لتجفيف منابع الفساد وهدر المال العام.
كل هذا، لن يمنعنا من تقييم أدائه بعد ستة أشهر، وإعادة النظر فيه بعد سنة.
سألت مرة كاتبًا ومعارضًا معروفًا من مثقفي موريتانيا المستقلين عن سبب غيابه عن الساحة وامتناعه عن نشر تدوينات ومقالات كانت توجه انتقادات حادة للحكومة؛ فرد قائلًا:
“أعتقد أن ولد اجاي قد أضفى حيوية على العمل الحكومي منذ عودته إلى الواجهة وزيرًا مديرًا للديوان الرئاسي، وقررت مع أصدقاء، بعد تعيينه وزيرًا أول، منحه فرصة سنة للقيام بالإصلاحات العاجلة والضرورية. وإذا فشل في ذلك، سأعود لنفس المنهج النقدي، وهذا واجبنا جميعًا.”
الرؤية، في اعتقادي، واضحة، والأهداف على المدى القصير والمتوسط أيضًا. ولد اجاي قادر على تطهير الإدارة، ووقف صفقات التراضي المشبوهة، والنهب المنظم في بعض المصالح والمؤسسات العمومية، وتوجيه الموارد التي كانت تُهدر عبثًا لاستكمال مشاريع البنية التحتية المتعثرة، وتحسين خدمات التعليم والصحة.
وسيكون من الصعب على الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يسمح له بالبقاء في منصبه يومًا واحدًا دون إنجازات حقيقية، فالوقت ينفد بسرعة من مأموريته الثانية، وهي مأمورية حاسمة ومفصلية في تاريخ البلاد.
الخليل ولد اجدود
باريس