المولد بين علل الشرع وشكر النعم

في إطار النقاش العلمي المتجدد حول مسألة المولد النبوي وما يتعلق به من أدلة واعتبارات شرعية، كتب فضيلة الشيخ محمد سعيد بن بدي جوابًا علميًا على مسائل أثارها أخونا الفاضل موسى عبد الفتاح، متناولًا فيها العلل الشرعية المرتبطة بصوم يوم الاثنين وما ورد فيه من ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، ومبينًا أن كلا الوصفين يعدّ نعمة مستقلة تستوجب الشكر.
وقد ساق الشيخ جملة من أقوال الأئمة والأصوليين، مستعرضًا قواعد العلة المركبة والمستقلة، ومؤكدًا أن شكر النعمة أمر عام يتوجه لكل ما أنعم الله به على عباده، وأنه بذلك يندفع الإشكال المثار حول دعوى التحكم في الاستدلال.
 

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه 
قول الأخ موسى: إن العلة مركبة من الولادة والإيحاء، والاجتزاء بأحدهما تحكم، والإيحاء وصف مناسب للاعتبار فلا يصح إلغاؤه إلخ كلامه.
بحث جيد، إلا أنه قد يناقش في دعوى التحكم.
فقد أوردوا مثل هذا على تعدد العلل المستنبطة، قالوا: إذا اجتمعت أوصافٌ كلٌّ صالح للعلية حكمنا بكون كل واحد جزءًا من العلة؛ إذ الحكم بالعلية دون الجزئية تحكم؛ لقيام الاحتمالين في نظر العقل، ولا نص يعين أحدهما، وإلا رجعت منصوصة، وهو خلاف المفروض.
وقد أجابوا عنه بأنا لا نسلم لزوم التحكم، فإنه يمكن استنباط الاستقلال بالعقل، وهو أن يكون كما اجتمعت في محل ينفرد كلٌّ في محل، فيثبت فيه الحكم، فيستنبط أن العلة كل واحد لا الكل، كما وجدنا المس وحده واللمس وحده في محلين، وثبت الحدث معهما، فعلمنا أن كل واحد منهما علة مستقلة، وإلا لما ثبت الحكم في محلِّ إفرادهما، فيحكم بذلك عند الاجتماع اهـ قاله العضد في شرح المختصر.
قال التفتازاني: قوله: (إذ الحكم بالعلية دون الجزئية تحكم) هذا تقرير واضح، لكن لا يخفى إمكان معارضته بالمثل، فإن الحكم بالجزئية دون العلية تحكم اهـ.
وجوابنا هنا بمنع دعوى التحكم، فإن ترتيب الحكم على هذه الأوصاف إنما هو لكونها جزئياتٍ لمعنى مشتركٍ بينها، وهو أنها نعمة عظيمة من الله تعالى، والنعم مأمور بشكرها، قال تعالى: {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون}، و"نعمة الله" لفظ عام، وقضية العام كلية، يتوجه الحكم فيها إلى كل فرد بالاستقلال، فكل نعمة مأمور بشكرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعظّم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئا.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه في الحديث المذكور نعمتين عظيمتين، فكل واحدة منهما تستحق أن تشكر، فكلاهما علة للشكر مقتضية له.
قال الأمير الصنعاني في سبل السلام: وعلل صلى الله عليه وسلم شرعية صوم يوم الاثنين بأنه ولد فيه أو بعث فيه أو أنزل عليه فيه، وكأنه شك من الراوي، وقد اتفق أنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه وبعث فيه. وفيه دلالة على أنه ينبغي تعظيم اليوم الذي أحدث الله فيه على عبده نعمة بصومه والتقرب فيه اهـ.
وقد جاء في حديث صوم عاشوراء نعمة ثالثة كانت علة للشكر أيضا، ولذلك استدل به الحافظ ابن حجر على رعي المناسبات. قال القاضي عياض في إكمال المعلم: وقوله: " فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه "، فيه جواز فعل العبادات للشكر على النعم فيما يخص للإنسان، ويعم المسلمين ويخص أهل الفضل والدين، والذين ألزمنا حبهم وولايتهم من الأنبياء والصالحين، وأن الشكر بالعمل والطاعة، وبالقول والثناء، قال الله تعالى: {اعملوا آل داوود شكرا}، وقال عليه السلام: " أفلا أكون عبدا شكورا "، وقال الله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} اهـ.
فطلب الشكر دائر مع وجود علته التي هي حصول النعمة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في ضيافة أبي الهيثم بن التيهان: "والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم ".
قال عياض في إكمال المعلم: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتسألن عن نعيم هذا اليوم "، قال المفسرون: كل شيء من لذة الدنيا من النعيم الذي يسأل عنه، والسؤال عنه: هل يقيم بحق شكره ومنة الله عليه فيه بنعمته؟ اهـ.
وتأمل قولهم: كل شيء من لذة الدنيا من النعيم الذي يسأل عنه، صريح في أن شكر بعضها لا يغني عن شكر غيره، وإذا كان هذا في نعم الدنيا فهو في نعم الآخرة أولى وآكد.
وبه يعلم انتفاء التحكم؛ لقيام مرجح الاستقلال، فيستقيم حينئذ الاستدلال، والعلم للكبير المتعال.
ومما يؤكد استقلال كل من الوصفين بالعلية أن الحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن أبي قتادة الأنصاري بلفظ: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل عليه عمر فقال: يا نبي الله! صوم يوم الاثنين؟ قال: "يوم ولدت فيه، ويوم أموت فيه". هذا حديث قتادة.
وفي حديث وكيع: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولم يذكر عمر - وقال: "فيه ولدت، وفيه أوحي إلي" اهـ.
ومما يحتج به الأصوليون على عدم تركيب العلة ثبوت الحكم مع بعض الأوصاف دون بعض، وهو المسمى عندهم بالإلغاء؛ إذ لو كانت العلة المجموع لانتفت بانتفاء جزئها، وإذا انتفت انتفى حكمها. فثبوت الحكم في رواية ابن خزيمة دون ورود الإيحاء في هذه الرواية يمنع كونه جزء علة مركبة منه ومن الولادة.
قال ابن الحاجب في مختصر المنتهى: الإلغاء، هو بيان إثبات الحكم بالمستبقى فقط، ويشبه نفي العكس الذي لا يفيد، وليس به؛ لأنه لم يقصد لو كان المحذوف علة لانتفى عند انتفائه، وإنما قصد: لو كان المستبقى جزء علة، لما استقل اهـ.
وقد أوضح ذلك الأصفهاني في بيان المختصر بقوله: والإلغاء يشبه نفي العكس الذي لا يفيد، وليس الإلغاء نفي العكس.
أما بيان أنه يشبه نفي العكس؛ فلأن العكس انتفاء الحكم لانتفاء الوصف، فنفي العكس إثبات الحكم بدون الوصف، وفي الإلغاء أيضا تحقق الحكم بدون الوصف المحذوف.
وأما بيان أن الإلغاء ليس نفي العكس؛ فلأن المستدل قصد في نفي العكس أن الوصف ليس بعلة للحكم؛ لأنه لو كان علة لانتفى الحكم عند انتفائه. وفي الإلغاء لم يقصد أن الوصف المحذوف ليس بعلة؛ لأنه لو كان علة لانتفى الحكم عند انتفائه، بل قصد أن الوصف المستبقى علة مستقلة للحكم؛ لأنه لو كان جزء علة، لما استقل بدون المحذوف اهـ.
وفي معنى رواية ابن خزيمة السابقة حديث: "حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم".
قال العراقي في طرح التثريب: رواه أبو بكر البزار في مسنده بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه اهـ.
فهذا الحديث صريح في أن كلا من الحياة والممات نعمة مستقلة، وهو ما يوجب تخصيص كل بشكر.

أما الجواب عن حديث مسلم فمفروغ منه، فليس للمتأخرين إلا إعادة كلام المتقدمين، وقد أجاب الإمام النووي رحمه الله تعالى عن أحاديث مسلم التي تُكُلم فيها.
وإلى ذلك أشار سيدي عبد الله في طلعة الأنوار بقوله:
ما في الصحيحين إذا ما يبرز@ بالشرط قد صححه المبرز.....
وأما مسألة إلحاق ابن حجر وغيره للطاعات بالصوم فلعل مستندهم أن الصوم في حديث عاشوراء ذكر مقرونا بعلته، وهي شكر النعمة، قال: فصامه موسى شكرا، وإذا كانت العلة المستنبطة تعمم أصلها الذي استنبطت منه فالمنصوصة أولى، وشكر الله طاعته، ففي الحديث: أفلا أكون عبدا شكورا. والعلم لله.
والله تعالى أعلم.