في عالم اليوم، حيث تتسارع التغيرات الاقتصادية والسياسية، يبقى الفساد أخطر أشكال الغباء الاستراتيجي التي تواجه الدول، خصوصًا النامية منها. فبينما يُفترض أن الدولة هي الضامن الأول لمصلحة شعبها، فإن غياب إرادة قوية لمكافحة الفساد يُعد بمثابة طعنة في خاصرة البناء الوطني، وفتحًا لأبواب الانهيار.
*1. الفساد: من غياب الحكمة إلى تدمير الدولة*
الفساد يقوض البنية المؤسسية للدولة ويؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي، ويعزز من تفاوت الدخل والبطالة. تشير تقارير منظمة الشفافية الدولية (Transparency International) إلى أن الدول التي ترتفع فيها معدلات الفساد تسجل معدلات نمو اقتصادي أقل بنسبة تصل إلى 2.5% سنويًا مقارنة بالدول ذات الشفافية العالية. في موريتانيا، تحتل المرتبة 144 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2023، ما يعكس تحديات كبيرة.
*2. المتخاذل شريك في الجريمة*
التساهل مع الفساد يكرسه ويمنحه حصانة فعلية. تشير الدراسات إلى أن الفساد في الدول النامية يكلفها حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا. ووفقًا لدراسة البنك الدولي، فإن متوسط الخسائر الناتجة عن الفساد يصل إلى 1.26 تريليون دولار سنويًا على مستوى العالم. لذلك، من الضروري استبعاد المشبوهين من الحملات الانتخابية لضمان نزاهة العملية الديمقراطية.
*3. القضاء كحائط صد*
ينص القانون الجنائي الموريتاني، في المادة 169، على أن:
*"كل موظف عمومي يستولي على أموال عامة موضوعة تحت يده بحكم وظيفته، يعاقب بالسجن من 5 إلى 10 سنوات مع غرامة مالية ومصادرة الأموال."*
والمادة 173 تضيف:
*"محاكمة المتهمين بالاختلاس تتم أمام المحكمة الجنائية المختصة، وليس المدنية، لضمان تحقيق العدالة وعدم إفلات المفسدين."*
هذا التأكيد على اختصاص المحكمة الجنائية يحمي النظام من الاختراق، ويمكّن من متابعة المفسدين داخل مؤسسات الدولة.
*4. دروس من العالم: دمار دول بسبب الفساد*
- *نيجيريا:* حيث تقدر خسائر الفساد بنحو 400 مليار دولار خلال العشرين عامًا الماضية، وفقًا لمركز الشفافية النيجيري.
- *أوكرانيا:* الفساد أعاق جذب الاستثمارات، مما أدى إلى تباطؤ التنمية الاقتصادية قبل الحرب.
- *تونس:* وفق البنك الدولي، أدى الفساد إلى تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 40% خلال العقد الماضي.
- *لبنان وفنزويلا:* دول انهارت مؤسساتها بسبب تراكم الفساد وتدهور الخدمات العامة، ما تسبب بأزمات اجتماعية واقتصادية متلاحقة.
*5. مطالب ملحة للمستقبل*
1. استبعاد كل من يشتبه في تلقي أموال غير مشروعة من الحملات الانتخابية، استنادًا إلى المادة 56 من قانون الانتخابات الموريتاني.
2. تفعيل الشفافية المالية، وتطبيق القانون رقم 2019/027 المتعلق بمحاربة الفساد.
3. دعم استقلالية الأجهزة الرقابية والقضائية، وفقًا للدستور الموريتاني وخاصة المواد 82 و130.
4. 4. إنشاء هيئة مستقلة للمظالم تكون مرتبطة مباشرة برئيس الجمهورية، تضمن وصول الشكاوى دون وساطة.
5. تشديد الرقابة على الإنفاق العام، مع محاسبة كل من يثبت تورطه، وفقًا للمادة 240 من القانون الجنائي.
*خاتمة*
إنّ مكافحة الفساد ليست خيارًا سياسيًا ظرفيًا، بل هي التزام وطني وأخلاقي وقانوني لحماية مؤسسات الدولة، وضمان استدامة التنمية، وصون كرامة المواطن وحقوقه. وإن استئصال بؤر الفساد يتطلب إرادة سياسية صارمة، ومؤسسات رقابية مستقلة، وقضاءً نزيهًا لا يخضع للمساومات ولا للإملاءات.
غير أن هذا التوجه، رغم وجاهته وضرورته، لا يمكن أن يتم خارج إطار العدالة والضمانات القانونية. ولذلك نؤكد في هذا السياق أن *مبدأ قرينة البراءة* يظل حجر الزاوية في أي نظام قانوني عادل، وأن *تكييف الوقائع المنسوبة لأي جهة أو فرد في قضايا التسيير المالي والإداري يجب أن يبقى من صلاحية محكمة الحسابات*، بصفتها الهيئة الرقابية المختصة، التي يمنحها القانون حق التقييم والمتابعة، دون استباق الأحكام أو الانسياق خلف حملات دعائية قد تخلط بين الاتهام والإدانة.
وبهذا التوازن بين الحزم في المبدأ والعدل في الإجراء، يمكن أن نرسي قواعد دولة المؤسسات، التي تضمن محاسبة المفسدين، وتحمي الأبرياء، وتؤسس لمستقبل لا مكان فيه للحصانات الاجتماعية أو السياسية، بل تسود فيه الكفاءة، والنزاهة، والشفافية.
المحامي/السالك اباه