لقد تجاوز الخطاب الذي ألقاه فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، بمدينة وادان، بمناسبة افتتاح الدورة الرابعة عشرة لمهرجان المدن القديمة، طابعه الاحتفالي البروتوكولي، ليغدو نصًا سياسيًا–ثقافيًا متكامل البنية، يربط الذاكرة التاريخية بمشروع وطني معاصر يقوم على ترسيخ المواطنة وتعزيز الوحدة الاجتماعية.
ومن خلال استحضاره للمكانة العلمية والحضارية لمدينة وادان، أعاد رئيس الجمهورية الاعتبار لهذه الحاضرة التاريخية بوصفها كنزًا تراثيًا استثنائيًا، تزخر بالمخطوطات النادرة، وبعمران فريد، وبرموز دلالية عميقة مثل “شارع الأربعين عالمًا”. وبهذا التثمين، لم تعد وادان مجرد فضاء جغرافي أو أثر جامد من الماضي، بل أضحت رمزًا لإشعاع حضاري متواصل، وحاملةً لرسالة ضمنية مفادها أن بناء الحاضر لا يمكن أن ينفصل عن استيعاب دروس الماضي واستلهام قيمه.
غير أن الخطاب لم يقتصر على تمجيد الذاكرة، بل أقام صلة واضحة بين صيانة التراث والتنمية المحلية. ففي مقاربة واقعية، أكد رئيس الجمهورية أن المهرجان ليس غاية في حد ذاته، وإنما وسيلة لحماية الموروث الثقافي، وتنشيط الحرف التقليدية، وتشجيع استقرار السكان في مناطقهم الأصلية. وتعكس هذه الرؤية تصورًا متقدمًا للتنمية المندمجة، يعتبر الخصوصيات الثقافية رافعةً للتنمية المستدامة، لا عبئًا يثقل كاهلها.
وفي صميم الخطاب، برزت المواطنة بوصفها الركيزة الأساسية للرؤية السياسية المعروضة. فمن وادان، جدّد رئيس الجمهورية دعوته إلى التحرر من “التراتبيات الزائفة” و”القوالب النمطية” التي تهدد التماسك الوطني، مؤكدًا تصورًا واضحًا للدولة الحديثة باعتبارها دولة مواطنة، تضمن الحقوق وتكرّس الواجبات، لا دولة تقوم على الانتماءات الضيقة أو الولاءات المجزأة.
ولم تبقَ هذه التوجهات حبيسة الخطاب النظري، بل دعمتها حزمة من السياسات العمومية قُدِّمت بوصفها ترجمة عملية لخيار المواطنة، من أبرزها:
– المدرسة الجمهورية،
– التمييز الإيجابي،
– الحماية الاجتماعية،
– توسيع التغطية الصحية والتأمين الصحي،
– إصلاح الإدارة،
– تعزيز اللامركزية.
وتهدف هذه الإجراءات، في جوهرها، إلى ترسيخ مبدأ أساسي مفاده أن الحقوق تُمنح على أساس المواطنة وحدها، لا وفق المكانة الاجتماعية أو الانتماء التقليدي.
ويُعدّ أحد أكثر مقاطع الخطاب دلالة ذلك المتعلق بدور النخب السياسية والفكرية والإعلامية، حيث شدد رئيس الجمهورية على أن الدولة، مهما بذلت من جهود، لا تستطيع وحدها إحداث التحولات العميقة في الذهنيات والسلوكيات. وفي هذا السياق، تضمن الخطاب نقدًا ضمنيًا لبعض النخب التي ترفع شعارات المواطنة والوحدة الوطنية، بينما تنخرط عمليًا في ممارسات وصراعات قبلية وفئوية تفضي إلى الاعتباط، وتُضعف هذا الخيار، وتعرقل تجسيده.
وتكتسي هذه الرسالة أهمية خاصة، لأنها تنقل النقاش من حيز السياسات العمومية وحدها إلى مجال الثقافة السياسية والممارسات الاجتماعية، واضعةً مختلف الفاعلين أمام مسؤولية جماعية في صون وترسيخ “القيم الوطنية المشتركة” في الوعي والسلوك.
كما جدّد الخطاب الدعوة إلى حوار وطني جامع، دون إقصاء أو محرمات، باعتباره أداة لبناء توافق حول الثوابت الجامعة للأمة. وقد ربط نجاح هذا المسار بشكل صريح بإشراك الشباب، الذين قُدِّموا بوصفهم أمل البلاد ومحرك تحولها، بما يؤكد أن مشروع المواطنة لا يمكن أن يتحقق أو يستمر دون مشاركة فاعلة من الأجيال الصاعدة.
وخلاصة القول، إن خطاب وادان نجح في الجمع بين ثلاثة مستويات متكاملة:
– مستوى رمزي، يعيد الاعتبار للتراث والذاكرة الوطنية؛
– مستوى سياسي، يؤسس لرؤية واضحة لدولة المواطنة؛
– مستوى نقدي، يحمّل النخب مسؤولية التغيير الثقافي والسلوكي.
غير أن التحدي الحقيقي، كما يوحي الخطاب ذاته، لا يكمن في وضوح الرؤية ولا في تعدد البرامج، بل في قدرة المجتمع، عبر نخبه وشبابه، على تحويل هذا الخطاب إلى ممارسات يومية، قادرة على إضعاف منطق العصبية والولاءات الضيقة، والارتقاء بالمواطنة إلى مرتبة الرابط الأسمى والجامع.
