التشريعات الأوروبية وتوسيع دائرة الرقابة

في السنوات الأخيرة، اتخذ الاتحاد الأوروبي سلسلة من القوانين والاتفاقيات الجديدة التي تستهدف الحد من تدفق المهاجرين عبر المسار الموريتاني. فقد أقر البرلمان الأوروبي في 2021 ما عُرف ب"الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء"، الذي يركز على تعزيز الرقابة على الحدود الخارجية وتسريع إجراءات الترحيل. كما وُقِّعت في 2023 اتفاقيات تعاون ثنائية بين بروكسل ونواكشوط، نصت على تمويل مشاريع لمراقبة السواحل وتجهيز مراكز احتجاز جديدة، إلى جانب تدريب قوات خفر السواحل الموريتانية. وفي هذا السياق، تُطالب بروكسل شركاءها في جنوب المتوسط بتشديد القيود على الهجرة غير النظامية مقابل حزم دعم مالي، ما يثير جدلا واسعا حول ما إذا كانت هذه السياسات تراعي الالتزامات الإنسانية أم أنها مجرد مقاربة أمنية صارمة تحول الضفة الجنوبية إلى خط دفاع أول عن أوروبا. وقد أُسيء فهم بعض بنود هذه الترتيبات من طرف الرأي العام، حيث راجت شائعات بأن موريتانيا ستستقبل مهاجرين مُرحَّلين من أوروبا على غرار الاتفاقية البريطانية ـ الرواندية، وهو ما نفته الأطراف الرسمية مؤكدة أن الأمر يقتصر على التعاون في مراقبة الحدود ومكافحة شبكات التهريب.

- أثر اجتماعي وثقافي ممتد

للهجرة انعكاسات عميقة على البنية الاجتماعية. فقد ترك غياب الشباب فراغا في القرى، وغيّر ملامح الأسر الممتدة، وأعاد تشكيل أدوار النساء اللواتي أصبحن أكثر حضورا في تدبير شؤون البيت. أما في الخارج، فقد أسس الموريتانيون جمعيات ومراكز ثقافية، من ملتقيات أدبية في باريس إلى مدارس قرآنية في نيويورك، تعكس تمسكهم بالهوية ورغبتهم في توريثها للأجيال.

لكن هذا التمسك يصطدم أحيانا بتحديات الاندماج. فالأبناء الذين وُلدوا في المهجر يعيشون بين ثقافتين: ثقافة الأصل بما تحمله من تقاليد صارمة، وثقافة المجتمعات الجديدة بما تطرحه من قيم مغايرة، لتنشأ أزمات هوية بين جيلين. كما تظهر إشكالات لغوية وتعليمية بارزة: ففي فرنسا وإسبانيا يتعلم أبناء الموريتانيين بلغة البلد المضيف، ما يجعل العربية واللغات الوطنية عرضة للتراجع داخل الجيل الجديد. ولذا نشأت مبادرات أهلية لتعليم اللغة الأم وتحفيظ القرآن الكريم، في محاولة لموازنة الاندماج مع الحفاظ على الجذور.


- الهجرة كورقة سياسية

الهجرة في السياق الموريتاني لم تعد مجرد مسألة اجتماعية أو اقتصادية، بل غدت ورقة سياسية بامتياز. فالاتحاد الأوروبي يرى في نواكشوط شريكا أساسيا لحماية حدوده الجنوبية، فيما تستخدم الحكومة الموريتانية الملف كورقة تفاوض للحصول على دعم مالي وسياسي. وفي الداخل، يُوظَّف الخطاب حول الهجرة في الحملات السياسية والإعلامية، إما للتحذير من "التغيير الديموغرافي"، أو للتأكيد على دور الدولة كفاعل مسؤول في إدارة أحد أعقد ملفات العصر.

ويضاف إلى ذلك أن الإعلام الأوروبي يلعب دورا مضاعفا في تكوين صورة الهجرة عبر موريتانيا. فبينما تُقدَّم نواكشوط في بعض الصحف ك"حارس حدود" بالوكالة عن أوروبا، يرى آخرون أن السياسات الحالية تجعلها تتحمل أعباء لا طاقة لها بها. هذه الصورة المتباينة تغذي الجدل داخل موريتانيا نفسها، بين من يعتبر التعاون مع أوروبا فرصة لتعزيز العلاقات الدبلوماسية، وبين من يخشى أن يتحول البلد إلى مجرد "سياج خارجي" للاتحاد الأوروبي.


- آفاق المستقبل - إلى أين

إن تجربة موريتانيا مع الهجرة تجسد ازدواجية فريدة: بلد عبور تستقر فيه آلاف الآمال الإفريقية، وبلد مُصدّر يغادره شبابه إلى أوروبا والخليج وأميركا. هذه المزدوجية تضع الدولة أمام امتحان عسير: كيف تُوازن بين مسؤولياتها الإنسانية والتزاماتها القانونية تجاه المهاجرين العابرين، وبين حاجتها لمعالجة الأسباب التي تدفع أبناءها إلى الرحيل؟

إنه سؤال مفتوح على المستقبل، مرهون بقدرة موريتانيا على صياغة سياسات شاملة وواقعية، تُراعي الأبعاد الإنسانية والحسابات الأمنية والاقتصادية. عندها فقط يمكن للبلاد أن تتحول من ممر ومصدّر ومقصد للهجرة إلى نموذج رائد في إدارة واحدة من أكثر ظواهر عصرنا تعقيدا؛ فالهجرة عبر موريتانيا ليست ظاهرة طارئة، بل امتداد لتحولات إقليمية ودولية أوسع. وإذا كانت أوروبا تنظر إليها من زاوية أمنية ضيقة، فإن جوهرها الحقيقي يظل إنسانيا قبل كل شيء. فالمهاجرون ليسوا مجرد موجات عابرة أو تهديدات ظرفية، بل بشر يبحثون عن الحياة بكرامة.

وتجد موريتانيا، بحكم موقعها الجغرافي الفريد، نفسها أمام فرصة لتقديم نموذج متوازن يوفق بين الالتزام بالمعايير القانونية الدولية وبين الحفاظ على القيم الإنسانية. نجاحها في ذلك لن يكون خدمة لمواطنيها فقط، بل إسهاما في ترسيخ مقاربة إنسانية للهجرة في منطقة ما زالت تموج بالأزمات.

إن مستقبل الهجرة في موريتانيا، كما في العالم، سيتحدد بمدى قدرتنا جميعا -  دولا ومجتمعات - على النظر إلى المهاجر لا كرقم في إحصاء، بل كإنسان يستحق الحماية والكرامة.