في زمن مضى، كانت القيم الإنسانية كالتضحية، وصحوة الضمير، والتمسك بالأخلاق، تمثل أعمدةً ثابتة تقوم عليها المجتمعات. لم تكن تلك المفاهيم مجرد شعارات تُرفع، بل كانت ممارسات حية، تُجسد في سلوك الأفراد، وتُزرع في وجدان الأجيال. أما اليوم، فقد تلاشت تلك القيم من مشهدنا المعاصر، أو كادت، ليحل محلها عالم يركض خلف النتائج السريعة، والمكاسب الفورية، دون اعتبار للوسائل أو العواقب.
لم يعد أحد يسعى لفهم الآخر، لا من باب المحبة، ولا حتى من باب الكره. بل أصبح التفاعل الإنساني مشروطًا، آنيًا، مدفوعًا بمصالح فردية ضيقة، حيث لا مكان لانتظار، ولا رغبة في تشويق، ولا قيمة للحوار. كل شيء بات يُقاس بالنتائج، وتُحسب الخطوات مسبقًا، وكأننا نعيش في تجربة علمية لا حياة فيها.
أصبح التيك توك وأمثاله رموزًا لعصر جديد، لا يتطلب علمًا ولا فهمًا، بل فقط قدرة على جذب الانتباه، ولو بالجهالة والسطحية. فصار الجاهل نجمًا، وصاحب الفكر مهمشًا، لأن الشهرة اليوم تُمنح لمن يلفت الأنظار، لا لمن يوقظ العقول.
في الماضي، كان لصحوة الضمير معنى. وكانت الأخلاق تملأ الفراغ بين القانون والفعل، بين السلطة والإنسان. كنا نتأثر بتاريخ أبطال ناضلوا من أجل القيم والمبادئ، ولم يصنعوا مجدهم بالمال ولا بالجاه، بل بسلوكهم الصادق وإيمانهم العميق بما هو حق وعدل. كتبهم التاريخ بأحرف من ذهب، لا لأنهم امتلكوا ثروات، بل لأنهم امتلكوا نفوسًا حرة.
أما في عصرنا الحالي، فقلما يصحو الضمير. الأهداف باتت واضحة: تحقيق الربح، وجذب الانتباه، والسيطرة على العقول. الوسائل، لا تهم، طالما تؤدي إلى النتائج المرجوة. فاختلط الواقع بالوهم، وتزاوجت الحقائق مع الافتراضات، لنصنع عالمًا بلا مشاعر، بلا ألم، بلا معنى.
إننا اليوم نقتل في أنفسنا المعاني التي عاش لأجلها الأبطال، وضحّى من أجلها أناس لا يزال التاريخ يذكرهم. نعيش في زمن، لا نعرف فيه طعم المجد الحقيقي، بل نعيش لوهج زائف، سرعان ما يخبو، لأنه خالٍ من الجوهر.
وإذا كان ما نعيشه هو "الحقيقة" الجديدة، فلماذا نجد في أنفسنا تعلقًا بمن صنعوا أمجادهم بشرف؟ لماذا نحب سماع قصص أصحاب الضمائر الحية، والأخلاق الرفيعة؟
إن ما نصنعه اليوم من "تاريخ" لن يذكره أحد، لا الأجيال القادمة، ولا التي تليها. فالتاريخ لا يحفظ إلا ما يستحق الحفظ، لا ما يُصنع في زوايا المنصات، ويُنسى مع أول تحديث. وإذا استمر الحال على هذا النحو، فإننا لا نخسر القيم فقط، بل نُسهم في طمس الإنسانية ذاتها. وعندها، قد لا يكون للإنسان دور يذكر، سوى ككائن بيولوجي يُدار بغرائزه، لا بوعيه ولا ضميره.
نحن نعيش مفترق طرق تاريخي، حيث تُختبر إنسانيتنا وقيمنا. فإما أن نُعيد إحياء الضمير، ونجدد إيماننا بالأخلاق، أو نترك أنفسنا فريسة لعالم يُديره المال، ويُخدره الوهم. فالخيار ليس للتاريخ، بل لنا.
بقلم جمال اباه