فى التاسع عشر من فبراير 2022 وصلت قريتى الهادئة ببلدية أم الحياظ (أكدرنيت) فى زيارة روتينية للوالد محمدو ولد باب عليه رحمة الله. كانت أمسية أكثر من جميلة، فيها تبادلنا جديد الساحة المحلية والوطنية، وحدثته عن الأوضاع داخل البلدية وسير الأمور فى العديد من المشاريع التنموية، وجديد حراك الحلفاء بالمنطقة، وكان - وهو يلملم أغراضه أمام عريش الأسرة- ، يطرح أسئلته التقليدية " أشوساو محمدات؟ وأنت و"جميل" مزلت أصحاب؟ ومسعود ولد بلخير وأحمد ولد داداه إياك مزال سالمين؟ ثم يقطع الأسئلة ليعود إلى بعض قصص الماضى، متحدثا تارة عن سلوك الأمة الموريتانية، وصعوبة التكيف مع واقعها المضطرب، وتارة عن الأوضاع فى الجارة الشرقية للبلاد ( جمهورية مالى)، وقد أخذنا الحديث إلى التدخل الروسى، والأزمة الأوربية الإيرانية، والدور المتراجع لفرنسا بالقارة السمراء، ومخاطر أزمة كورونا والقلق من وقوع مجاعة فى المنطقة.
كنت أكثر من سعيد وأنا أستمع إلى تفاصيل آخر رحلة قام بها إلى "ترمسه" قبل يومين من وصولى إلى القرية ، وحديثه عن الضعف الذى أحس به – بعدما طلب أن يتم نقله إليها فى سيارة للسلام علة رفيقه حمود ولد عبد الله وتوديعه، وقد أذنت للأهل بذلك، فما كنت لأرد له أي طلب، رغم آثار التعب البادية على جسمه، والضعف الذى لازمه خلال الأشهر الأخيرة - .كان يقطع استرساله فى الحديث أكثر من مرة بحمد الله وشكره، قائلا " إنه بات أكثر من مطمئن على مستقبل القرية والمجتمع، بعد تعزيز شبكة المياه فيها، وبناء المسجد الجديد، داعيا إلى مزيد من التحمل والصبر، ومستعرضا مسيرة بالغة التعقيد من وصوله للمنطقة (تميزين) مطلع القرن المنصرم إلى اليوم وهو يودعنا بقرية أكدرنيت.
كان لدي إحساس بأننا نعيش آخر أيام الوصال بيننا، لكن لم أتوقع أن تكون تلك آخر جلسة نتبادل فيها الآراء، ونخطط فيها لما هو قادم، رغم أن الأشهر الأخيرة كان يوقظنى فيها كل ليلة تقريبا لتسجيل وصيته أو تقديم نصيحة لى، وتارة يطلب التواصل معى عبر الهاتف فى أوقات متأخرة، والحضور يغالب دموعه وهو يخفف من وقع الرحيل المحتمل.
كنت أكثر من سعيد وأنا أعيش تلك اللحظات المتجددة مع كل وصال، وفى نفس الوقت جد قلق مما ستؤول إليه الأمور لاحقا، ومع ذلك حرصت فى نهاية الجلسة على توثيق المشهد بالفيديو، لتكون أمسية التاسع عشر من فبراير 2022 آخر مشهد أحتفظ به للوالد عليه رحمة الله وهو ينثر نصائحه، ويدفعنى إلى مواجهة الحياة بكل عزم وقوة، ويمازحنى قائلا " لقد واجهت الحياة وأنا يتيم فى السابعة من عمرى، فقير وغير متعلم ، وأعيش فى منطقة الباطن، فما الذى يحزنكم اليوم وقد تجاوزتم الأربعين من العمر"يعدل فيكم مقل أعليكم لبات"؟.
غادرت القرية ليلا باتجاه تمبدغه فى الحوض الشرقى، ومع ساعات الصباح الأولى رن الهاتف، لقد كان فى الطرف الآخر أختى العزيزة نائب رئيس المجلس الجهوى فى الحوض الغربى مت بنت محمدو ولد باب، لتبلغني بأن الوالد أصيب فجرا بوعكة صحية (ألم حاد فى الرأس)، وأن الألم لله الحمد تراجع عنه مع ساعات الفجر الأولى ، بدليل سؤاله المتكرر عنى، لقد كان ذلك مقياس تعافيه من كل وعكة تصيبه، وهو المقياس الذى يدركون به استعادة للوعي بعد أي وعكة يتعرض لها. لقد كانت طيلة وقت المكالمة هادئة ولكن كان صوتها فى نفس الوقت يشي بتطور مقلق فى صحة الوالد، وهي التى لازمته خلال سنوات ضعفه، بعدما أغلقت منزلها فى المدينة (اعوينات أزبل)، وعادت إلى الريف - رغم مشوار أبنائها الدراسى المتقدم وانشغالاتها السياسية - ، وذلك لملازمته طيلة السنوات الخمس الأخيرة من حياته فى القرية حيث أصر على المقام عليه رحمة الله.
توجهت إلي القرية بشكل فورى، ومعى أخذت جل المستلزمات الضرورية لمن هو فى وضعه الصحى من أجل إنعاشه قبل التوجه به لأقرب مركز صحى بالمنطقة (اعوينات أزبل)، ولكن حينما عاينته، تقاسمت نفس الإحساس مع الأخت العزيزة، لقد تأكدنا أن مرحلة جديدة قد أزفت بالفعل، وأننا مطالبون بالإستعداد لها، والتعامل مع فاجعة رحيله بصبر الموقن بأن ماعند الله خير وأبقى، وأن نعمة قد وهبها الخالق باتت فى حكم المسترد، وأن الله غالب على أمره، مهما كانت مواقف العباد.
حملناه إلى حيث عاش لحظاته الأخيرة (مركز اعوينات أزبل) ورافقنا فى رحلة علاجه مدير المركز والطبيب الخلوق فؤاد ولد لبات وصحبه، وبعد يومين عدت للقرية من أجل حمل الوالدة إليه لتوديعه، لأكون مضطرا مساء السادس والعشرين من فبراير 2022، إلى الخروج لجل الأقارب والأحباب والزوار، لأطلب منهم احتساب الوالد محمدو ولد باب عند الله عز وجل.
غادر محمدو ولد باب الدنيا والآلاف يثنون عليه بالخير، غا\ر النيا وقلبه معلق بالمساجد، يقرآ القرآن آناء الليل وأطراف النهار دون كلل أو فتور. عاش عزيزا بين أقرانه، كريما شهما، جلدا فى مواجهة الحوادث، مهتما بشؤون المجتمع، صاحب علاقات وازنة فى المنطقة التى ولد فيها أو تلك التى أقام فيها لاحقا، صاحب دور لايكابر فيه أحد فى السياسة والإقتصاد والبيئة والأمن المجتمعى والتعليم. مارس السياسة وأنتخب فى أول مجلس بلدي ببلدية أم الحياظ، ضمن لائحة فازت بالتزكية، حفر الآبار بربوع المنطقة ووجه الناس لحفرها، أسس حمسينيات القرن الماضى أول تجمع مستقر بمنطقة آوكار ( قرية آجوير)، وشارك فى تأسيس أول سد بمنطقة "تميزين" (أغليق أولاد البح) فى ثلاثينيات القرن المنصرم، وقاد تأسيس أكثر سدود المنطقة ذكرا، وأنفعهم للناس (تامورت كنيو، وأغليق أكدرنيت)، ودفع باتجاه تأسيس أول مدرسة بالمنطقة (مدرسة أكدرنيت)،وكان دوره فى التكافل الإجتماعى أكثر من رائع. لقد كانت تعزية الوالد شيخنا ولد أشماته فيه كاشفة لحجم الدور الذى قام به فى المنطقة خلال عدة عقود عاشها بين "الباطن" فى الحوض الشرقى و"ترمسه" و"أم الحياظ" فى الحوض الغربى. لقد خاطب الوالد شيخنا ولد أشماته المعزين قائلا " أنا من مجتمع لايمكن لواحد منه أن يقول بأن لديه مال (غنم أو إبل أو بقر)، إلا وكان محمدو ولد باب مساهما فيه بالنصف أو الثلث أو الربع، أو كان أصله هبة بالكامل من عنده، لقد كان والدا للجميع دون تمييز، كريما بماله دون تقدير لوضع عياله، صارما فى توجيهه للمجتمع الذى ينتمى إليه دون مجاملة، مدافعا قويا عن مصالح المجتمع طيلة حياته. متحملا نوائب الدهر دون تردد، وغادر الدينا وجل مايمتلك موزع بين أسر فقيرة فى الشمال والجنوب، ترعاه وتعيش منه، وقد آل إليها جله قبل رحيله، وماكان لواقع أقره أن يتغير..
لقد وصل محمدو ولد باب منطقة الحوض الغربى وهو فى الحادية عشر من عمره، للإقامة بين أبناء عمومته، تاركا أخوته (محمد الشيخ ومامه) مع أخواله بالباطن –ونعم القوم هم- ، لقد أخذه الحماس بالهجرة على ظهير بعير دون رفيق، حاملا بندقيته ، وهو مجرد قاصر حالم بغد أفضل، بعدما نمى إليه خبر تأسيس كيان جديد للمجتمع الذى ينتمى إليه بقرية تمزين (أزمان أولاد البح)، وكانت سنوات الإقامة الأولى فرصة للتعليم والتكوين وتحمل المسؤولية، بعدما قرر الإقامة فى محظرة الحي، وتميز عن الطلاب بجلبه المستمر لما يصطاده بين مراجعة اللوح فى الصباح والعودة إليه فى الظهر لتعزيز استقرار المحظرة ، قبل أن يتوجه إلى "أهل سالم " لاحقا لجلب بعض النوق من أجل طلاب المحظرة المقيمين فيها من أبناء الفقراء والمغتربين. وقد أضاف لاحقا المزرعة لإهتمامه المغاير لأوليات مجتمع بدوى، يعيش على الثروة الحيوانية ويحاول التفلت من ضريبة الإستقرار ومستلزماته، وهو ماحدث لاحقا مع انهيار التجمع بعد رجيل الرجل الفذ سيدي ولد أحمد بوبه عليه رحمة الله، وعدد من رموز المجتمع الذى أسس تجمع "أزمان أولاد البح" بمنطقة تميزين.
لقد شكل استقرار محمدو ولد باب ببلدية أم الحياظ إضافة نوعية للمنطقة – يشهادة مجمل أقرانه- ورافعة حقيقية لجهود أبنائها، وكانت مسيرته التى قاربت القرن (99 سنة) حافلة بفعل الخير والتوجيه والإرشاد، وظل إلى آخر أيامه مصرا على المساهمة حسب المستطاع فى إعمار المنطقة التى يقطن فيها، ومد يد العون للمحتاج والفقير مهما كان دون تمييز.
كما شكل رحيله خسارة لكل الذين عرفوه وعايشوه، وخصوصا من أبناء الطبقات المحرومة، والأسر الفقيرة، وعابر السبيل، الباحث عن كريم تضرب إليه أكباد الإبل، تقبل الله منه صالح الأعمال وألحقه بالصديقين والشهداء والصحالين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.