وفي الارض منأى الكريم عن الاذى -- وفيها لمن خاف القلى منعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرى --سرى راغبا او راهبا وهو يعقل الشنفرى
تمثل قضية الهجرة غير الشرعية في موريتانيا أحد الملفات الشائكة التي يحيط بها الكثير من الضجيج الإعلامي والجدل السياسي. ومع تزايد تدفقات المهاجرين غير النظاميين، تتداخل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في تشكيل المشهد، بينما تتنامى الضغوط الأوروبية لإيجاد حلول للحد من تدفقات المهاجرين. غير أن معالجة هذه الإشكالية تقتضي فهما عميقا لديناميكيات الهجرة ودور موريتانيا كدولة عبور ووجهة في آن واحد.
*الهجرة بين الحقائق والتهويل الإعلامي
على عكس الخطاب السياسي في الغرب فحيث تستخدم قضية الهجرة غير النظامية لكسب الأصوات، لا توجد في موريتانيا أحزاب أو تيارات سياسية تتبنى خطابا معاديا للهجرة أو الأجانب. غير أن النقاش حول الظاهرة غالبا ما يطغى عليه التهويل الإعلامي والمزايدات السياسية، مما يجعل من الصعب التوصل إلى حلول فعالة وواقعية.
*الهجرة: مفاهيم أساسية ودور موريتانيا في المعادلة
لفهم واقع الهجرة، من الضروري التمييز بين ثلاث فئات من الدول :
-دول المصدر: وهي الدول التي ينطلق منها المهاجرون بسبب الفقر، النزاعات، أو غياب الفرص الاقتصادية
-دول العبور: حيث يمر المهاجرون عبرها في رحلتهم نحو الوجهات المستهدفة
-دول الوجهة: وهي الدول التي يسعى المهاجرون للاستقرار فيها، وغالبًا ما تكون أوروبا بالنسبة لمعظم المهاجرين العابرين عبر موريتانيا
تاريخيًا، كانت موريتانيا دولة عبور أكثر منها دولة وجهة، لكنها أصبحت أيضًا مقصداً للعمالة البسيطة، خاصة من مالي، حيث يتركز نشاطهم في القطاعات المنزلية والخدماتية. ورغم ذلك، لم تراكم البلاد خبرات كافية في التعامل مع الهجرة العابرة، مما يجعلها تواجه تحديًا متزايدًا في إدارتها..
*الهجرة وأوروبا: ازدواجية المعايير
من المفارقات أن أوروبا نفسها كانت، في فترات ازدهارها الاقتصادي، تتساهل مع الهجرة غير الشرعية، نظرًا لحاجته
الماسة إلى اليد العاملة، بسبب ما يعرف بـ'الشتاء الديموغرافي' الناجم عن تزايد عدد المسنين وتراجع نسبة الشباب. على سبيل المثال، في التسعينيات، كانت إسبانيا والبرتغال تغضان الطرف عن المهاجرين بسبب الحاجة إلى العمالة. لكن في فترات الأزمات، كما حدث عام 2008 ومع صعود اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة، تم تشديد القيود على الهجرة، ما يوضح أن المواقف الأوروبية ليست دائمًا قائمة على مبادئ ثابتة، بل تتغير حسب المصالح الاقتصادية والسياسية
*موريتانيا والاتفاقيات الأوروبية: بين الضغوط والقدرات
وقعت موريتانيا اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي تتعلق بالحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية، غير أن هذه الاتفاقيات لا تتضمن - وفق ما هو معلن - التزامات واضحة تلزمها بلعب دور 'حارس البوابة الجنوبية لأوروبا'. ومن غير الواقعي افتراض أن موريتانيا، حتى لو تلقت تمويلات ضخمة، ستتمكن أو ستجازف بإقامة مراكز احتجاز للمهاجرين، لأن ذلك سيعني مكافأة شبكات التهريب وتشجيع نشاطها بدلا من الحد منه. علاوة على ذلك، تفتقر موريتانيا إلى الخبرة الكافية للتعامل مع هذا النوع من التحديات.
*موريتانيا والعلاقات مع الجوار: نحو مقاربة متوازنة
التحدي الذي تواجهه موريتانيا يكمن في ضرورة تفعيل الاتفاقيات مع دول الجوار لإعادة استقبال مواطنيها الذين يعبرون عبر أراضيها، وهو حق تكفله القوانين الدولية. من غير الممكن لموريتانيا أن تتحمل وحدها عبء التدفقات البشرية المتزايدة، دون تنسيق فعال مع دول المصدر والوجهة. فالبلاد لا تملك الموارد ولا الخبرة الكافية لتتحول إلى 'منطقة عازلة'، كما أن ذلك قد يجعلها ضحية سهلة لضغوط الأطراف المختلفة.
*المفارقة الغائبة عن التحليل
في خضم هذا الجدل، يغفل كثيرون حقيقة أن الهجرة من دول الجنوب إلى دول الجنوب أكبر من تلك المتجهة نحو الشمال الصناعي. ومع ذلك، فإن التركيز الإعلامي والسياسي ينحصر في الهجرة نحو أوروبا، بينما تظل تدفقات الهجرة داخل إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أقل دراسة وتحليلا، رغم أهميتها الكبيرة في فهم أبعاد الظاهرة