بعد سقوط حكومة بشار الأسد، واغتيال قادة حزب الله، وتشديد الضغوط على المقاومة العراقية، لم يبقَ سوى ذراعٍ واحد من أذرع المقاومة لا يزال نشطاً في دعمه للقضية الفلسطينية، وهو حركة أنصار الله في اليمن. وفي هذا السياق، تعرضت هذه الحركة لهجمات متعدّدة من جهات مختلفة، مما أسفر عن أضرار كبيرة في البنية التحتية للمناطق الواقعة تحت سيطرتها. والسؤال الذي يشغل أذهان الكثيرين في هذه المرحلة هو: كيف يواصل الشعب اليمني صموده ودعمه لحركة أنصار الله، ليس فقط خلال العام ونصف العام الماضيين، ولا سيما بعد عاصفة الأقصى في ٧ أكتوبر، بل منذ انطلاق الثورة اليمنية في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤ وحتى اليوم؟ إنّ هذا الصمود نابع من روح مستمدة من البنية الاجتماعية، والهوية الدينية، وتنامي الشعور بالانتماء الوطني لدى اليمنيين، وهو ما سنسعى إلى شرحه في هذا المقال.
البنية الاجتماعية وتحمل المصاعب
يمكننا بتسامح أن نعتبر البنية الاجتماعية اليمنية قائمة على مثلث من ثلاث زوايا: القبيلة، والدين، والدولة. ونظراً لكون أكثر من ٦٠٪ من السكان يعيشون في المناطق الريفية، فإنّ القبيلة تُعدُّ العنصر الأكثر تأثيراً ضمن هذا المثلث. كما أن النمط الحضري التقليدي المعروف في دول العالم لا يبرز بوضوح في اليمن، إذ تتأثر الحياة الاجتماعية في معظم المدن اليمنية بالطابع والثقافة القبلية.
إنّ هيمنة البنية القبلية-الريفية في اليمن تضخّ في المجتمع مقومات عديدة للصمود. فثقافة الإنتاج للاستهلاك الريفي، التي تنتشر بدرجة أوسع بسبب الفقر العام، إلى جانب المناخ المعتدل طوال العام خاصة في المناطق الجبلية التي تُسيطر عليها أنصار الله، بالإضافة إلى ضعف مؤسسات الدولة اليمنية وتعدّد مشكلاتها، كلها عوامل جعلت ارتباط الناس بالحكومة ضعيفاً. وكنتيجة لذلك، فإنّ الضغط على الدولة لا ينعكس بقوة على الشعب، ما يجعل تأثير الأزمات التي تُنهك الدول الأخرى محدوداً في الحالة اليمنية.
ومن جهة أخرى، فإن لكل قبيلة يمنية حدوداً جغرافية محددة، تُدار فيها شؤونها الداخلية بواسطة شيخ القبيلة. ويمكن اعتبار كل قبيلة بمثابة دولة صغيرة لها قوة عسكرية، مسؤولة عن حفظ الأمن وإدارة شؤونها. وقد ترسخت الثقافة القبلية في المجتمع اليمني إلى حد أنّ الأطفال يتعلمون منذ صغرهم كيفية الدفاع عن أرضهم وهويتهم القبلية. لذا، فإن استخدام السلاح والتدريب العسكري منذ الطفولة أمر شائع ومقبول في اليمن، وتشير التقديرات إلى وجود ٥٠ إلى ٦٠ قطعة سلاح لكل ١٠٠ شخص في البلاد، ما يجعل اليمن في المرتبة الثالثة عالمياً بعد الولايات المتحدة (٨٠ قطعة) وجزر الفوكلاند (٦٥ قطعة)، والأولى عربياً.
إنّ الحياة القبلية، بما تحمله من خصوصيات، تُنتج شخصية مقاومة ومؤمنة ومستعدة للدفاع عن القيم والمعتقدات. وهذا لا يقتصر على الوضع الراهن، بل تشير أحداث التاريخ – من دور اليمنيين في زمن النبي محمد ﷺ إلى الفتوحات الإسلامية – إلى أنّ اليمنيين عرفوا دوماً كشعب شجاع ومقاتل.
الهوية الدينية كمحرّك أيديولوجي
لا شك أنّ مذهب الزيدية يُعد من أكثر القراءات الثورية للمذهب الشيعي، حيث يتمحور حول "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ويُعدُّ القيام ضد الظلم شرطاً أساسياً لتولّي الإمامة، إلى جانب شروط مثل الانتساب لفاطمة الزهراء، والعلم، والكرم، والشجاعة، والتدبير. وقد جعلت هذه المبادئ أتباع الزيدية دائماً في حالة استعداد لمواجهة الظلم والباطل، وأسّست فيهم روحاً ثورية.
وعلى الرغم من أنّ بعض المفكرين الزيديين المجددين قد أعادوا النظر في هذه المبادئ خلال العقود الأخيرة، فإنّ انبثاق حركة أنصار الله استناداً إلى تعاليم الزيدية الأصيلة همّش تلك القراءات الجديدة، وجعل من الزيدية مرجعية دينية وشرعية لمواقف الحركة المناهضة للصهيونية. وتجدر الإشارة إلى أنّ اليمن هو اليوم المعقل الوحيد للزيديين في العالم، حيث يشكّلون حوالي ٤٠ إلى ٤٥٪ من سكان البلاد، ويتركزون في شمال غرب اليمن ضمن مناطق سيطرة أنصار الله.
وقد أدّى الشهيد السيد حسين الحوثي، الزعيم الفكري لحركة أنصار الله، دوراً أساسياً في صياغة الإطار الفكري للحركة، من خلال "المسيرة القرآنية" وسلسلة محاضراته التي بدأت منذ عام ٢٠٠١، والتي تُعرف اليوم باسم "ملازمات السيد حسين الحوثي". حاول من خلالها ربط تعاليم الزيدية بالتحولات المعاصرة وقضايا الأمة الإسلامية، مُحذراً من خطر المشاريع الأمريكية-الصهيونية، ومتبنياً خطاب الإمام الخميني بوصف أمريكا "الشيطان الأكبر"، وواضعاً القضية الفلسطينية في صميم خطاب المقاومة.
ومن بين محاضراته، تُعدّ: «الصرخة في وجه المستكبرين»، و«الهوية الإيمانية»، و«مسؤوليتنا أمام الله» ركائز فكرية لمقاومة أنصار الله. ففي «الصرخة»، يطرح السيد حسين الحوثي شعار الحركة الخماسي: «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام». ويؤكد أن إطلاق هذا الشعار هو الحد الأدنى لمواجهة الاستكبار. كما يدعو في «الهوية الإيمانية» إلى اعتبار مقاومة الظلم جزءاً من الإيمان، ويُحدد أمريكا و"إسرائيل" كنماذج واضحة للظلم في عصرنا. وفي «مسؤوليتنا أمام الله»، يُشدّد على المسؤولية الفردية لكل مسلم في مواجهة الظلم، حتى وإن كان وحيداً.
وقد تمكّن السيد عبد الملك الحوثي، القائد الحالي للحركة، من مواصلة هذا الإرث الفكري وتعزيزه، ورفعه إلى مستوى المواجهة العملية من خلال تطوير القدرات العسكرية وتعزيز النفوذ السياسي. وهو يؤكد مراراً أنّ «الدفاع عن فلسطين واجب إلهي لن نتخلى عنه ما دامت الاعتداءات الصهيونية على غزة مستمرة».
إنّ هذا الترابط بين الفكر الزيدي والمقاومة الواقعية، جعل من حركة أنصار الله أحد الفاعلين المؤثرين في الجغرافيا السياسية للعالم العربي.
الفخر القومي والعروبة
في بُعد آخر من الهوية اليمنية المرتبطة بالصمود، تأتي مسألة العروبة والاعتزاز بها بعد فترة طويلة من التهميش. إذ يُقسّم النسّابون العرب إلى ثلاث مجموعات: العرب البائدة (مثل عاد وثمود، الذين فُنيوا قبل الإسلام)، والعرب العاربة (القحطانيون، الذين يعود نسبهم إلى قحطان بن سام بن نوح)، والعرب المستعربة (العدنانيون، الذين تعلّموا العربية لاحقاً ويعود أولهم إلى النبي إسماعيل عليه السلام).
في الثقافة العربية، يُعد الانتساب إلى القبائل اليمنية – خاصة القحطانيين – مصدراً للفخر، حيث يعتبرون أنفسهم "العرب الأصلاء"، ويُرجع كثير من العرب أصولهم إلى اليمن لتثبيت مكانتهم.
وفي هذا الإطار، تحوّل التعاطي مع القضية الفلسطينية كقضية عربية إلى ركيزة هُوية لحركة أنصار الله. فمع أن قادة الحركة من سلالة عدنانية (السادة)، فإنّ انطلاق الحركة من أرض يمنية جعل نظرة العرب إليها باعتبارها ممثلاً للعرب الأصلاء، ما عزز من شرعيتها عربياً.
أما من جانب الشعب اليمني، فإن حركة أنصار الله أعادت له الفخر القومي والعزة القومية، بعد أن كانت البلاد قبل ثورة ٢٠١٤ تعاني من الإذلال والتبعية، لا سيما أمام السعودية. ومن خلال دفاعها عن فلسطين كقضية عربية، ساهمت الحركة في إحياء الهوية القومية بين اليمنيين، وكسبت تأييداً واسعاً حتى في مناطق خاضعة للحكومة المدعومة سعودياً.
نحن وصمود اليمن
العلاقة بين إيران واليمن تاريخية تعود إلى ما قبل الإسلام. ويمكن قراءة دور إيران في تعزيز صمود اليمن من خلال التعاون بين الدولتين، والعمل على تقوية نفوذ أنصار الله كجهة حاكمة داخل اليمن محلياً ودولياً.
وتُعدّ أنصار الله عنصراً رئيسياً في حكومة صنعاء، وتحظى بنفوذ مذهبي لا يُستهان به، بالإضافة إلى علاقات قبلية منظّمة، ما منحها مكانة قوية في مثلث السلطة اليمني. غير أنّ الإحصاءات الاجتماعية تشير إلى أنّ الهجرة من الريف إلى المدن قد ازدادت، وتراجع سكان الريف من أكثر من ٧٠٪ إلى نحو ٦٠٪، مما يشير إلى تزايد الحاجة إلى دور فعّال للحكومة، وبالتالي انخفاض أحد أهم عوامل الصمود في المجتمع اليمني.
ومن جهة أخرى، قد تواجه أنصار الله تحديات داخل المذهب الزيدي، نتيجة اختلافات فكرية بين علماء صعدة وصنعاء والحركة، ما يستوجب تعزيز آليات المشاركة وحل الخلافات داخل الخطاب الديني.
كما أنّ هناك ضرورة ملحة لأن تتولى أنصار الله زمام قيادة المجتمع العربي ومحبي الهوية العربية، سواء داخل اليمن أو خارجه. فرغم أهمية التركيز على البُعد الديني، فإن تجاهل الهوية العربية قد يُشكّل تحدياً مستقبلياً للحركة، في حين أنّ استغلال هذا البعد سيجلب مكاسب مهمة لها.
أما عن دور إيران، فينبغي أن يتمثل في تعزيز أنصار الله كحكومة مستقرة، عبر تقوية مؤسسات الدولة وتحسين الخدمات لكسب الشرعية المحلية، والعمل دبلوماسياً لكسب الاعتراف الدولي بحكومة صنعاء. هذا النهج المزدوج سيُعزز مكانة أنصار الله كسلطة رسمية قادرة على ضمان صمود الشعب اليمني بشكل مستدام.