خطاب نبيكت لحواش.. الدولة فوق الانتماء/الولي سيدي هيبه

"أنا صبور وأتجاوز الكثير، لكنني لم أقبل بعد الليلة حضور أي موظف لاجتماع قبلي".

رئيس الجمهورية

ضمن خطاب وطني واضح المعالم ألقاه في "نبيكت لحواش"، أكد رئيس الجمهورية أن الولاء للدولة فوق كل انتماء، متعهدا بمحاسبة من يستغل الغطاء القبلي لتغطية الفساد ودعا إلى تأسيس دولة العدل والمساواة وسيادة القانون.

لقد تحدث الرئيس بوضوح غير مسبوق، محددا بجلاء الفاصل بين القبيلة باعتبارها حاضنة للقيم والروابط الاجتماعية والكرامة، والقبلية بوصفها آلية للاستغلال والمحاباة وتقويض مؤسسات الدولة. لم يكن حديثه هجوما على القبيلة، إذ يدرك عمق حضورها في التاريخ والضمير الجمعي، بل كان مواجهة صريحة للقبلية حين تنحرف عن جوهرها الاجتماعي، فتتحول من رابطة تضامن إلى غطاء للفساد وتبرير للغبن وإعاقة لمسار التنمية.

لقد كان خطاب الرئيس في أنبيكت لحواش بمثابة بيان وطني لإعادة الاعتبار إلى الدولة، بوصفها فكرة جامعة ومؤسسة حاكمة تنظم المصالح وتوازن بينها، لا أداة تُستخدم لخدمة فئة أو جماعة بعينها. وأكد الرئيس في كلمته أن الانتماء الوطني يجب أن يسمو فوق كل انتماء آخر، وأن الولاء الحق لا يكون إلا للدولة وللقانون الذي يحكمها. وبنبرة حاسمة، أعلن أن زمن الاحتماء بالقرابة أو بالانتماءات الضيقة قد انتهى، وأن عهد المواطنة المتساوية تحت مظلة الدولة والقانون هو البديل.

وحملت كلماته نبرة حازمة في مواجهة الفساد، مؤكدا أن المساءلة لن تكون شكلية أو انتقائية، بل قانونية وشرعية ومنظمة، تنطلق من المساطر المعمول بها في الجمهورية. وبذلك أوضح أن معركة الدولة ضد الفساد ليست تصفية حسابات، بل استعادة للعدالة، وتثبيت لمفهوم المصلحة العامة، وإنصاف للمواطن الذي يتطلع إلى نهاية تعاطي الفساد وبداية عهد التنمية المتوازنة لفائدة المواطن واستقرار الدولة.

كما أعاد الخطاب في جوهره ترتيب الوعي الجمعي، إذ نقل النقاش من مستوى الاتهام الأخلاقي إلى مستوى الفهم البنيوي؛ فالمشكلة ليست في القبيلة كبنية اجتماعية، بل في توظيفها السياسي والإداري الذي يجعلها بديلا عن المؤسسات. هذه النقلة الفكرية تمثل تحولا نوعيا في الخطاب الرسمي:

- من مجاملة الواقع إلى مساءلته،

- ومن مهادنة الأعراف إلى استنهاض القانون ليعلو فوق كل اعتبار.

وبالطبع فقد فتح الخطاب أيضا أفقا جديدا أمام الإصلاح المؤسسي ودعا ضمنيا إلى بناء إدارة عمومية تقوم على الكفاءة لا الولاء، وعلى توزيع الفرص بعدالة وشفافية، وتحرير المرفق العمومي من نفوذ الزبونية والمحسوبية. كما حمل المجتمع المدني والإعلام مسؤولية ترسيخ الوعي بالمواطنة المسؤولة، وفصل قيم الانتماء الثقافي عن ممارسات الهيمنة القبلية.

بهذا الخطاب تحولت أنبيكت لحواش إلى فضاء رمزي؛ فلم تعد مجرد مدينة على أطراف الوطن، بل منبرا أعلن منه الرئيس بداية حرب سلمية على الفساد والانغلاق؛ حرب قوامها الإصلاح والمحاسبة، ورهانها على ضمير المواطن وفاعلية الدولة.

إن جوهر الخطاب ليس صراعا ضد القبيلة، بل ضد القبلية التي تتكئ عليها وتختبئ خلفها. ليس إنكارا للهوية، بل دفاعا عن الدولة التي وحدها تحفظ الهويات وتصونها من الاستغلال. إنه نداء لعودة الدولة إلى مركزها الطبيعي كضامن للعدل والمساواة، لا كوسيط بين العصبيات والمصالح.

إن روح أنبيكت لحواش، كما جسدتها كلمات الرئيس، هي إعلان لمرحلة جديدة عنوانها ألا سلطة تعلو على سلطة القانون، ولا رابطة تتقدم على رابطة الوطن. وإذا ما ترجمت هذه الرؤية إلى إصلاحات مؤسسية جادة، فإن هذا الخطاب سيشكل نقطة تحول حقيقية في مسار بناء الدولة الحديثة، دولة توازن بين الأصالة والانتماء، وبين الشرعية والعدالة.