فخامة الرئيس.. وضعتم الأصبع على مكمن الداء/الولي سيدي هيبه

سيدي رئيس الجمهورية،

لقد وضعتم الأصبع على الجرح الغائر في جسد الأمة، ذلك الجرح الذي تمدد عبر عقود من
التراكمات البائسة، حتى باتت روائحه النتنة تفوح من كل مفاصل الدولة، طاردة كل محاولة للانعتاق م التخلف ومانعة اللحاق بركب الأمم. فالمنظومات التقليدية من قبلية وعشائرية وأسرية ضيقة وتراتبية آثمة وشرائحية مخلة، وما أنتجته من شبكات محسوبية وولاءات ضيقة، ما زالت حتى اليوم تتحكم في توزيع الفرص وتؤثر في توجيه القرار، وتغلق أبواب الارتقاء أمام الكفاءات، وتبقي الحركة الوطنية رهينة ماضٍ مثقل بالتمييز والظلم وعدم تكافؤ الفرص.

وإن رفضكم استمرار المسؤولين في الاحتماء بهذه القوالب المهترئة، ليس مجرد موقف سياسي، بل ضف عن إعلان وإرادة قطيعة مع ذهنية عطلت مشاريع البناء، وعمقت الفوارق، ورسخت اقتصاد الريع والامتيازات. إنها خطوة نحو دولة يشعر فيها المواطن بقيمته الفردية، لا بانتمائه القبلي أو موقعه في السلم الاجتماعي.

والحقيقة أن هذه المواجهة ستعري وتفضح، بعد حين، ولا محالة:
ـ جحافل الإعلاميين العابثين برسالة الإعلام النبيلة، المتصيدين في المياه العكرة، الذين أحالوا الكلمة إلى بضاعة تسعر وفق رغبات النافذين. 
ـ أصحاب الخطاب الشعري المترهل، الذي يختبئ خلفه التكسب الوضيع بالمديح الكاذب، 
ـ المحتمين بعبارات الفضيلة لتغطية النهب والسرقة وتطبيع الفساد. 
وإن كل هذه النماذج من "التزييف البلاغي" هي جملة أخطر الأمراض التي تحاصر إقلاع البلاد؛ لأنها يمنح الفساد وجها جميلا، وتسوق للظلم على أنه استحقاق.

لقد ورثت الدولة واقعا مثقلا بغياب الإرادة الجادة في البناء، وبممارسات أكلت من جهد المواطن، واستنزفت ثروات البلد، وكرست التفاوت الاجتماعي والطبقي، ورسخت ثقافة الإفلات من العقاب. وما لم تواجه هذه المنظومات بشجاعة، سيبقى المال العام نهبا لا رقيب عليه، وستظل التنمية حبرا على ورق.

إن خطوتكم نحو استعادة الدولة لهيبتها واستقامة مؤسساتها، ليست مجرد إصلاح إداري يرتجى، بل معركة وجود مطلوبة؛ معركة ضد بنى راسخة في الذهنية والسلوك، وضد شبكات تتنفس من موارد الدولة، وتقتات على تجويع المواطن وإرباك التنمية.

إنها لحظة فارقة سجلتموها في صفحة الزمن، لحظة اختبار لإرادة التغيير، ولأول مرة منذ عقود، تبدو الطريق ممكنة نحو دولة القانون والمواطنة والعدالة... إذا ما استمرت هذه المواجهة حتى النهاية."