موريتانيا بين الواقع والطموح/الولي سيدي هيبه

استقلت موريتانيا وهي أرض شبه جرداء، تفتقر إلى أبسط مقومات البنى التحتية الحديثة، نتيجة سياسات استعمارية فرنسية حرصت على إبقاء البلاد في وضع هشاشة عمرانية وإدارية يسهّل استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواتها المعدنية والبحرية.

وعلى الرغم من هذا الإرث الثقيل، ظهر جيل موريتاني جديد تخرج في مؤسسات الاستعمار التعليمية، لكنه سرعان ما حمل مشروعه الوطني الخاص، وسعى إلى وضع أسس دولة تستند إلى عمق الهوية التاريخية والخصوصية الثقافية للمجتمع الموريتاني.

ومع الزمن، بدأت ملامح الدولة تتشكل على خلفية مزدوجة تجمع بين آثار الحضور الاستعماري من جهة، ومحاولات بناء السيادة الوطنية من جهة أخرى. ظهرت مؤسسات رسمية، وبدأت قيم المدنية تتسرب إلى السلوك العام، وبرزت رؤية وطنية تبحث عن طريقها بين التعقيدات.

إلا أن هذا المسار لم يكن سلسا، فقد تعرض لهزات قوية كان من أبرزها حرب الصحراء، التي مثلت منعطفا خطيرا استنزف الاقتصاد، ووسع دائرة الانقسامات الداخلية، وأضعف قدرة الدولة الفتية على ترسيخ مشروعها المؤسسي.

ثم جاءت مرحلة حكم العسكر عبر سلسلة من الانقلابات المتتالية التي لم تشهد لها المنطقة مثيلا من حيث العدد والتسارع. وقد حملت تلك المرحلة معها موجات متعددة من الأيديولوجيات الوافدة، منها القومية العربية، والحركات الافريقية الزنجية، والإسلاموية، والحركات الحقوقية. هذه التيارات المتباينة ساهمت، رغم اختلاف سياقاتها، في تشويش الهوية الوطنية الجامعة وتعميق خطوط التصدع الاجتماعي والسياسي.

وبعد انهيار المعسكر الشيوعي دخلت البلاد مرحلة ما سمي بالديمقراطية، لكنها كانت في أغلب تجلياتها ديمقراطية شكلية أعادت إنتاج التحالفات بين العسكر وبعض النخب المدنية، وأطلقت ديناميات اجتماعية جديدة أعادت الاعتبار للبنى التقليدية، وعلى رأسها القبيلة التي عادت بقوة إلى الواجهة، لا باعتبارها رابطة اجتماعية، بل أداة نفوذ وطريقا للوصول إلى المصالح والامتيازات.

وفي هذا السياق المعقد تمدد الفساد ونهب المال العام، وبرزت شبكات المحسوبية والزبونية، مما عطل معايير الكفاءة وأفرغ الإدارة العمومية من مضمونها الوطني. تحول جزء من الإطار الإداري إلى فاعل سلبي يستبدل الانتماء الوطني بممارسات تهدف إلى التحايل على المال العام والانغماس في أنماط سلوك تناقض قيم المجتمع. ورغم وجود نخبة وطنية بقيت تحاول مواجهة هذا الانحدار، فإن تأثيرها ظل محدوداً أمام تشعب النفوذ التقليدي وسيطرة شبكات المصالح.

زاد المشهد ضبابية مع أحزاب سياسية تتشح بالوطنية في خطابها بينما تمارس براغماتية انتهازية في الواقع، مما عمق فجوة الثقة بين المواطنين والدولة. ووجدت البلاد نفسها عالقة في حلقة مفرغة بين مشاريع تحديث غير مكتملة وبنى اجتماعية قديمة تفرض حضورها بقوة.

غير أن الأعوام الأخيرة حملت بوادر تحول يمكن اعتباره بداية منعطف جديد في المسار الوطني. فقد مثل تقرير محكمة الحسابات خطوة نوعية في إحياء مبدأ الرقابة والمساءلة، إذ كشف اختلالات كبيرة في تدبير المال العام، وفتح الباب أمام محاسبة مسؤولين، في سابقة أعادت إلى النقاش العام سؤال الإصلاح المؤسسي ومحاربة الفساد بصورة منهجية وليست انتقائية. هذا التحرك، بما أثاره من نقاش وتحفظات، أعاد الاهتمام بدور المؤسسات في حماية الدولة من الفساد البنيوي الذي نخرها لعقود.

وتزامنت هذه التطورات مع خطاب قوي للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال زيارته إلى الحوض الشرقي، هاجم فيه بوضوح الخطاب القبلي والممارسات الجهوية والفئوية، وأكد أن الدولة لن تتسامح بعد اليوم مع أي فعل أو خطاب يحمي المفسدين ويهدد وحدتها. هذا الموقف لم يأت في سياق موسمي أو سياسي عابر، بل جاء ضمن رؤية أوسع تسعى إلى إعادة ترسيخ مفهوم المواطنة فوق كل الانتماءات التقليدية. كما رافق الخطاب إطلاق مشاريع تنموية كبيرة في المنطقة، في محاولة لربط الإصلاح السياسي بإصلاح تنموي يعالج جذور التهميش.

يمثل هذا التوجه، الذي يجمع بين محاربة الفساد وبناء المواطنة الحديثة، فرصة لإعادة وصل ما انقطع بين الدولة والمجتمع. لكنه لا يخلو من تحديات، أبرزها قدرة الدولة على مقاومة تشعب النفوذ القبلي، ومدى استعداد الإدارة العامة للتخلي عن آليات الزبونية، وقدرة المؤسسات الرقابية على العمل باستقلال واحترافية بعيدا عن الاستخدام السياسي.

إن نجاح هذا التحول يتوقف على مدى ترجمة هذه الخطابات والتقارير إلى سياسات فعلية تعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة، وتبني ثقة جديدة بين المواطن والسلطة، وتضع قواعد حقيقية للعدالة والشفافية. أما إذا بقي هذا التغيير في مستوى التصريحات أو تم توظيفه بشكل انتقائي، فإن البلاد قد تعود سريعاً إلى الحلقة القديمة ذاتها.

وهكذا يستمر المسار التاريخي لموريتانيا بين محاولات بناء دولة حديثة قادرة على حماية مواطنيها، وبين ارتدادات إرث طويل من الانقسامات والتحديات، في انتظار لحظة التقاء يندمج فيها التاريخ والهوية والدولة العادلة القادرة على تحويل الإمكان إلى واقع مستقبل أفضل.