تأبين الشيخ محمد الحافظ ولد النحوي للمرحوم محمد يحيى فتى

الحمد لله الباقي بلا زوال.
وإنا لله وإنا إليه راجعون. 
والصَّلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وإمَامنا وقدوتنا محمد بن عبدِ اللَّـه الذي كان انتقاله إلى الرفيق الأعلى أعظم عزاء لأمته في كل حين وحال.
وبعد: 
قد خرج من دنيانا الفانية: يوم الخميس 09 رجب 1446 الموافق 09 يناير 2025م الشيخ المربي القدوة الصالح رجل الدنيا والآخرة سيدي الوالد محمد يحيى فتى: تغَمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته، وَجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيينَ والصديقِينَ والشهداء والصالحِينَ وحسنَ أولئك رفيقا. 
خرج من هذه الدنيا وكأنه يترجم حال السلف الصالح، الذي قيل في حقهم:
أودعَ كلَّ نفَسٍ مرَّ بهِ 
ما تقتضِيه من حقوقِ ربِّهِ 
وكَأنَّه كذلك يحمل معه نصيبا وافراً مما قاله البوصيري في حق شيخه:
قد نالَ غايةَ ما يروم المنتهي
من ربه وله اجتهادُ المبتدي
كان الشيخ محمد يحيى رضي اللـه عنه وأرضَاه: رجلاً من نوادر الرجال سمتا وسلوكا وخلقا وعملا متواصلا لله تبارك وتعالى ومنذ عرفته - وقد عرفته بحمد الله في سن مبكرة - كانَ قد ألزمَ نفسه الوصية المأثورَة: (كان إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء)، كان وقته كله للـه، تلاوة وصلاة وذكرا وسعيا في منافع المسلمين.
كان أستاذي الشيخ محمد يحيى رضي الله عنه وأرضاه: أعجُوبَة الزَّمان في سائر أحوالِه وأقواله وأفعالهِ حسن الخلق موطأ الأكنافِ يألَفُ ويؤلف، كما ورد في الحديث:  (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الموطؤونَ أكنافاً الذينَ يألفونَ ويؤلَفون)، كان الشيخ محمد يحيى رضي الله عنه وأرضَاهُ عطوفاً رحيماً حنونا قمةً في التواضع، كان سائراً على نهجِ رسول اللـه صلى الله عليه وسلم مهتدياً به وَبِما دق وجل من مواقفه، يرى ملازِمه رأيَ العين ويرى فيه القاصِي والدَّاني: تلك النسبةَ الحقية العظمَى من أخلاق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ومحبته، كان يسعى أن يكون خلقهُ القرآن، كما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رافقته في أسفار متعددة بحمد اللـهِ: كنت معه في بيته العامِر في ثانوية روصو، وهو أستاذ وأنا تلميذ في السنة الأولى إعدادية يتابعني ويعطف عليَّ وأتعلم منه في الهمة والحال قبل المقال، فلما قررتْ وزارة التعليم في ذلك العام 1968 أن تعينه - وهو جدير بذلك - مديرا لثانوية العيون في الحوض الغَرْبي: استأذن الشيخ الوالد والوالدة رضي اللَّـه عنهما وطلب مني الذهاب معه إلى العيون، وتعلمت منه دروسا كثيرة من معالم السلوك ودلائل الأخلاق في العيون على مدار سنتين: السنة الثانية والثالثة من الإعدادية. 
وحظيت في تلكَ الدراسة في الإعدَادية بتعليم مميز في ذلك الوقت لكن حظي بحمد اللَّـه كان أكبرَ؛ بمجالسة وصحبة الشيخ محمد يحيى: الذي كنت أرى فيه سمت الصالحين وسلوك العارفين المتقين والحرص على منافع المسلمين.
وعندما عينته الوزارة كذلك مديراً في ثانوية أطار في 1970 طلب من الشيخ الوالد والوالدة رضوان الله عليهما أن أذهب معه إلى أطار فصحبته إلى ثانوية أطار لأتمم الشهادة الإعدادية تلك السنة في أطار ولنعرف بذلك من خلال أربع سنوات مناطق مختلفة من البلاد من جنوبها وشرقها وشمالها وليتعرف هو على أعيان البلاد الذين كانوا يبجلونه ويقصدونه في مهامهم، وَالذين كانوا يعبرون له عن أعظم التبجيل والتقدير، لما حباه الله به من أخلاق وقيم مثلى وفاضلة، وَكنت أتابع قيامه لليل، وأتابع عنايته بالضعفاء والمساكين، وأتابع صلته للارحامِ، وأسمعَ صدَى لسانه الذاكر الذي لا يكاد ينقطع عن صلاة الفاتح. 
كان حقيقةً بهجة للأيام في صغري وفي شبابي، وعندما عينته الدولة مديرا للتعليم الثانوي في عام 1971 كنت أنذاك تلميذاً في الثانوية الوطنية في قسم الرياضيات، وكانت الثانويةُ الوطنيةُ وقتهَا مركزًا علمياً أساسياً وقامة شامخةً في المؤسسات التربوية في بلادنَا.
كان يشرف عليها في ذلك الوقت صاحب المعالي الأستاذ الفاضل محمذن ولد بابَّاه وكانت صلتي بالشيخ محمد يحيى كما كانت في روصو وأطار والعيون، وكنت معه في المنزل غالبا: لأتابع تلك المدرسة العملية من التربية والأخلاق المثلى وعندما كثرت الإضرابات في صفوف التلاميذ في تلك السَّنة أراد جزاه الله خيراً أن يبعدني عن جو الإضرابَات حتى لا تتعطل المسيرة الدراسية، فأرسلني مراقبا في ثانويةِ روصو أولا ثم بعد ذلك مراقبا في ثانوية في نواكشوطَ بعد ذلك، لأتفرغ للبكالوريا التي دخلت بحمد اللـه وبإلحاح من معالي وزير التعليم العالي في تلك الأيام السيد محمذ باباه، وَدخلت المدرسة العليا للتعليم وكان يديرها في تلك الفترة العلامة الشيخ محمد المختار اباه رضي الله عنه وأرضاه. 
تابعت مع الشيخ محمد يحيى رضي الله عنه مراحل متعددة من الاهتمامات التربوية ومن بناء همم الرجال لظروف وصروف دَهر، كانت ظروفًا يحتاج البلد والوطن  فيهَا إلى المخلصين من رجاله أمثال الشيخ محمد يحيى الذي كان ركيزة عظيمة في قطاع التربية والتعليم. 
ولكنه كذلك كان رائداً من كبارِ رواد النفع العام للمجتمع خاصة وللبلاد عامة.
في تلك الفترات لم تكن المنازل كثيرة في العاصمة نواكشوط وكان منزل الشيخ محمد يحيى مكتظا بالوافدين.
وكان عنوان مسيرته رضي الله عنه في هذا الباب: "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه". فما أعظم إكرامه للضيوف بأخلاقه وبقِرَاهُ وبنفعِه. 
كانت مواكبة الشيخ محمد يحيى للمرضى ومرافقتهم إلى المستشفيات إحدى المهام الكبرى التي يحتاجها مجتمعنا ويحتاج أبناء بلدنا في مختلف المناطق. 
كان الشيخ محمد يحيى سباقا لرسم الطريق لذلكَ  في المستشفى الوطني، وكَان إذ ذاكَ المؤسسة الأساسيَة الفريدة، التي كان يرتادها المرضى القادمون من مختلف المناطق فله بحمد اللـه نصيب وافر من تفريج كروب الناس ونصيب معتبر من السعي لمدلولات الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} وكنت على ذلك من الشاهدين بحمد اللـه.
تواصلت مسيرة الشيخ محمد يحيى في الداخل والخارج بعنوان عظيم من الأخلاق الفاضلة ولعلي هنا أسوق شهادة استئناسا بما قاله الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: (خدمتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عشرَ سنينَ ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ ، وما قال لي لشيٍء صنعتُه : لِمَ صنعتَه ، ولا لشيٍء تركتُه : لِمَ تركتَه ، وكان رسولُ اللهِ من أحسنِ الناسِ خُلُقًا). 
ففي مرافقتي للشيخ محمد يحيى، ومتابعتي لمراحله المختلفة لم أشاهد يوما من الأيام منه رضي الله عنه وأرضاه إلا الابتسامة الدائمة والرضا بحمد الله والعطف والحنان والتشجيع ورفع الهمم والإفادة بذكر الصالحين، ولم أشاهد منه بحمد الله الا الجمال التام الذي لا جلال فيه، كانت حياته بحمد الله جمالًا كلها في أنس كامل مع الله تبارك وتعالى وفي خلق عظيم مع عباد الله وفي أدب جم مع خلق الله قاطبة رضي الله عنه وأرضاه حتى في أيام مرضه في المستشفى وفي مراحل المعاناة كان شاكرا حامدا لله تبارك وتعالى راضيا مبتهجا. 
وعندما زرته ليلة الاربعاء في المستشفى العسكري بالرباط وجلست معه كان حديثه بحمد الله هو الحديث المعهود المألوف شكرا لله وحمدا له ورعاية واهتماما بالآخرين. ولقد كنت أقول في مجالس متعددة إنَّ الشيخ محمد يحيى رضي الله عنه أعطى للأمة وللبلاد وللعباد الكثير والكثير مما لم يجد له من التقدير والتعبير ما يناسبه على كل المستويات ولا غرو في ذلك لأنَّه كان يعمل للـه في اللَّـه باللـه مخلصا قانتا رحيما ودودا. 
فكنت في مناجاة مع الضمير أتأسف كل الأسف أن الشيخ محمد يحيى ما وجد منا - وبنفسي أبدأ - ما يستحق، وتنبهني نفسي إلَى تقصيري الكبير في جناب هذه القامة العظيمة التي حبانا الله سبحانه وتعالى بها وأتعجب في بعض المواقف من ذلك، واليوم قضى الله ما قضى ورضينا بقضاء الله ولا نقول إلا ما يرضيه، كل ما فعل الجليل هو الجميل. ظننا بالله جميل: أن سيدي الشيخ محمد يحيى قدم إلى ما قدم من عمل صالح وأكثر من ذلك: إلى دائرة ومحيط لا حدود له من فضل الله الكريم المنان الرحيم الرحمن وأنه بحول الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأن البركة التي صحبته في حياتِه في هذه العقود الزمنية المباركَة ستبقى بحول الله السميع العليم، في هذا البيت الكريم، في كل رجاله ونسائه؛ جيلا بعد جيل لأن الله سبحانه وتعالى خليفة عباده في ذويهم ولأن العناية الربانية باقية جارية. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .

الشيخ محمد الحَافظ النحوي