الهيدروجين الأخضر: رهان موريتانيا لتحقيق التنمية المستدامة

يعتبر الهيدروجين، العنصر الأكثر وفرة في الكون، وحجر الزاوية للتحول نحو اقتصاد خالٍ من الكربون.
وفي عصرنا الحالي، ازداد الاهتمام بهذا العنصر بشكل ملحوظ، خاصة مع تسارع وتيرة التغيرات المناخية التي تهدد كوكبنا. 
وعلى الرغم من أن الإنتاج التقليدي للهيدروجين يعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري، فإن التوجه العالمي نحو الطاقة المتجددة قد فتح الباب أمام البحث عن طرق أكثر استدامة لإنتاجه. 
ومن هنا برز مفهوم "الهيدروجين الأخضر"، الذي يتم إنتاجه عبر التحليل الكهربائي للماء باستخدام الطاقة المتجددة .
ويعتبر بلدنا موريتانيا، بفضل موقعه الجغرافي المتميز وموارده الطبيعية الوفيرة، خصوصًا في ما يتعلق بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بيئة مثالية لإنتاج الهيدروجين الأخضر. 
فالشمس تشرق طوال العام، والرياح تهب بقوة، مما يوفر طاقة متجددة وفيرة يمكن استغلالها لإنتاج هذا الوقود النظيف.
هذه الإمكانيات الهائلة تضع بلدنا في موقع استراتيجي واعد، ليس فقط على الصعيد الوطني، بل أيضًا على المستوى الدولي، في مجال الطاقة المتجددة.
هذا الموقع الاستراتيجي والواقع المشرق هو ما دفعني لكتابة هذا المقال و الذي أود من خلاله تسليط الضوء على هذه الثروة الواعدة،  موضحا للقارئ والرأي العام عن  الهيدروجين الأخضر وطريقة  إنتاجه،  ودوره الاقتصادي،  وإمكانيات البلد في هذا المجال،  الآفاق والتحديات ، مختتما بتوصيات مهمة كمتخصص ومهتم بهذا المجال.

*الهيدروجين الأخضر ودوره الاقتصادي*

الهيدروجين هو عنصر كيميائي يحمل الرمز H والعدد الذري 1، ويقع في الجدول الدوري ضمن عناصر الدورة الأولى وفوق عناصر المجموعة الأولى، وهو في الظروف القياسية غاز عديم اللون والرائحة، سريع الاشتعال، غير سام، وثنائي الذرة ذو الصيغة الجزيئية H2.
يتم تصنيف الهيدروجين المنتج بألوان مختلفة بناءً على مصدر الطاقة المستخدم في إنتاجه، حيث يُعتبر الهيدروجين الأخضر الذي يتم إنتاجه عبر التحليل الكهربائي للماء باستخدام الكهرباء المولدة من مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، الحل الأكثر استدامة. 
في المقابل، يشكل الهيدروجين الرمادي والأسود حوالي 96% من الإنتاج العالمي، ويعتمدان على الوقود الأحفوري مما يتسبب في انبعاث كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون ، حيث ينتج عن إنتاج كيلوجرام واحد من الهيدروجين الرمادي حوالي 9 كيلوغرامات من ثاني أكسيد الكربون.
أما الهيدروجين الأزرق، فيُنتج بنفس الطريقة مع التقاط جزء من الانبعاثات الكربونية، مما يجعله حلًا مؤقتًا لتقليل الانبعاثات، إلا أن الهيدروجين الأخضر يظل الخيار الأمثل لتحقيق اقتصاد خالٍ من الكربون بنسبة 100%.

*تطبيقات الهيدروجين*

تتنوع تطبيقات الهيدروجين بشكل كبير عبر قطاعات متعددة، حيث يُستخدم في التطبيقات الصناعية مثل تكرير النفط، وإنتاج الأمونيا عبر عملية هابر بوش لتصنيع الأسمدة، بالإضافة إلى إنتاج الميثانول والفولاذ.
في قطاع النقل، يُعد الهيدروجين وقودًا واعدًا لدعم المركبات الكهربائية التي تعمل بخلايا الوقود (FCEVs)، والتي يتوقع أن يصل حجم سوقها إلى 14 مليار دولار بحلول عام 2026، كما يُستخدم في تشغيل الشاحنات لدى شركات مثل دايملر وفولفو، وفي الحافلات العاملة في المدن الأوروبية مثل كولونيا وفوبرتال، إلى جانب قطارات الهيدروجين التي دخلت الخدمة في ألمانيا والنمسا. 
أما في قطاع البناء، فيمكن مزج الهيدروجين الناتج من مصادر طاقة نظيفة مع الغاز الطبيعي في أنابيب الغاز ، مع إمكانية استخدامه مباشرة في مراجل الهيدروجين أو خلايا الوقود على المدى الطويل.
أما في قطاع الطاقة، فيُعتبر الهيدروجين حلًا فعالًا لتخزين الطاقة على المدى المتوسط والطويل، وكوقود لتشغيل توربينات الغاز (CCGTs) أو حتى توربينات تعمل بالهيدروجين.

*سوق الهيدروجين: أرقام وحقائق وتوقعات*

لقد شهد سوق الهيدروجين نموًا متسارعًا في السنوات الأخيرة، مدفوعًا بزيادة الوعي العالمي بأهمية الطاقة النظيفة والتحول نحو اقتصاد منخفض الكربون.
يُعتبر الهيدروجين أحد الركائز الأساسية لتحقيق أهداف الحياد الكربوني حيث بلغ إجمالي إنتاج الهيدروجين العالمي حوالي 94 مليون طن في عام 2021، وفقًا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة (IEA).
يُستخدم معظم هذا الهيدروجين حاليًا في الصناعات الكيميائية وتكرير النفط وإنتاج الأسمدة.
ومع تزايد الطلب على حلول الطاقة النظيفة، من المتوقع أن يتضاعف إنتاج الهيدروجين أربع إلى ست مرات بحلول عام 2050، ليصل إلى حوالي 500-600 مليون طن سنويًا، وذلك في سيناريوهات تحقيق الحياد الكربوني.
حسب المعطيات الحالية ، تتراوح تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر بين 3 و8 دولارات أمريكية للكيلوجرام، مقارنةً بتكلفة إنتاج الهيدروجين الرمادي التي تتراوح بين 1 و2 دولار للكيلوجرام. ومع ذلك، من المتوقع أن تنخفض تكلفة الهيدروجين الأخضر إلى أقل من 2 دولار للكيلوجرام بحلول عام 2030، وذلك بفضل التطورات التكنولوجية وزيادة كفاءة إنتاج الطاقة المتجددة وانخفاض تكاليفها.
تشير التقديرات إلى أن الاستثمارات العالمية في سوق الهيدروجين قد تصل إلى 700 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، مع توقع أن يصبح الهيدروجين الأخضر مصدرًا رئيسيًا للطاقة بحلول منتصف القرن 21.
ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، يمكن أن يساهم الهيدروجين في تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية بأكثر من 6 مليارات طن سنويًا بحلول عام 2050.

*موريتانيا.. مستقبل مشرق في مجال الهيدروجين الأخضر*

تعتبر موريتانيا واحدة من أكثر الدول الواعدة في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر، وذلك بفضل مواردها الطبيعية الغنية التي تشمل وفرة في الطاقة الشمسية والرياح القوية المستمرة، خاصة في المناطق الساحلية، وفي مساحات شاسعة من الأراضي غير المستغلة التي توفر بيئة مثالية لمشاريع الطاقة المتجددة وبتكلفة تنافسية.
يضاف إلى ذلك موقعها الاستراتيجي القريب من الأسواق الأوروبية، مما يسهل عملية تصدير الهيدروجين الأخضر عبر خطوط أنابيب أو سفن متخصصة، مما يقلل من تكاليف النقل ويضمن مردودية أفضل.
ونظرا لما يشهده البلد في الآونة الأخيرة من  استقرار سياسي واجتماعي ملحوظ ونظرا للجهود الحكومية الرامية إلى تحسين بيئة الأعمال وتوفير حوافز للاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة  فإن ذلك سيساهم في تطوير هذا القطاع من أجل تحقيق نقلة نوعية للاقتصاد الموريتاني من خلال خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز البنية التحتية، ودعم أهداف التنمية المستدامة.

*قانون الهيدروجين الأخضر : حوافز استثمارية جاذبة*

في خطوة مهمة نحو مستقبل طاقوي مستدام، أقرّ البرلمان الموريتاني مؤخرًا قانون الهيدروجين الأخضر، الذي يضع الإطار القانوني والتنظيمي اللازم لتطوير هذا القطاع الواعد، ويعكس الرؤية الاستراتيجية للحكومة في التحول نحو اقتصاد أخضر مستدام.
يهدف هذا القانون إلى جذب الاستثمارات من خلال تقديم حوافز ضريبية ومالية، وتسهيل إجراءات الترخيص، وتطوير البنية التحتية اللازمة لإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر.
يأتي هذا الإقرار تتويجًا لجهود حثيثة بذلتها الحكومة لتعزيز مكانة موريتانيا على الخارطة العالمية للطاقة النظيفة، ودعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مما يفتح آفاقًا جديدة للنمو الاقتصادي والاستفادة من الموارد الطبيعية الغنية التي تتمتع بها البلاد.

*استثمارات ضخمة ومشاريع واعدة*

تشهد موريتانيا طفرة استثمارية غير مسبوقة في قطاع الهيدروجين الأخضر، حيث تتنافس الشركات العالمية الكبرى لضمان حصتها في هذا السوق الواعد.
وعلى الرغم من أن الأرقام الدقيقة للاستثمارات ما زالت قيد التحديد في هذه المرحلة المبكرة، إلا أن حجمها يُعد كبيراً ويعكس الثقة الكبيرة في إمكانيات البلد.
تم توقيع سلسلة من مذكرات التفاهم والاتفاقيات مع شركات عالمية رائدة لتطوير مشاريع ضخمة لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
ومن أبرز هذه المشاريع:
-مشروع "أمان": بقيادة شركة "سي دبليو بي" (CWP)، يستهدف إنتاج 30 جيجاوات بحلول عام 2030، بتكلفة إجمالية تقدر بـ 40 مليار دولار.
-مشروع "نور": بالشراكة مع شركتي شاريوت البريطانية وتوتال الفرنسية، يهدف إلى إنتاج 10 جيجاوات.
-مشروع "أرن": يستهدف أيضاً إنتاج 10 جيجاوات.
-مشروع "بي بي" (BP): لا يزال في مراحله الأولية، لكنه يطمح إلى تحقيق طاقة إنتاجية تصل إلى 30 جيجاوات.
بالإضافة إلى ذلك، وقعت موريتانيا مؤخراً اتفاقاً ضخماً مع تحالف يضم شركات مصرية وإماراتية وألمانية، بقيمة 34 مليار دولار، لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
هذه المشاريع الطموحة تؤكد أن موريتانيا تسعى بجدية لتصبح مركزاً عالمياً لإنتاج الهيدروجين الأخضر، مستفيدةً من مواردها الطبيعية الغنية، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي القريب من الأسواق الأوروبية.

*سياسات و توصيات*

بحكم تخصصي في مجال الطاقات المتجددة وتطبيقاتها، أتطلع إلى مشاركة رؤيتي بتقديم مقترح يهدف إلى تحويل بلادنا إلى مركز إقليمي رائد لإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر. 
يهدف هذا المقترح إلى تقديم سياسات وتوصيات عملية لتحقيق هذا الهدف الطموح، مع ضمان استدامة هذه الجهود ومردوديتها وطنيا وإقليميا.

*السياسات:*

أقترح إنشاء لجنة وطنية للهيدروجين الأخضر تضم ممثلين عن القطاعين العام والخاص، لتطوير خارطة طريق دقيقة للهيدروجين الأخضر في موريتانيا . 
ستقوم هذه  اللجنة بإجراء دراسات معمقة تغطي جميع جوانب سلسلة قيمة الهيدروجين، بما في ذلك تحديد المخاطر، وتطوير البنية التحتية للغاز، والاستعداد للتصدير.
كما يجب أن تعمل اللجنة على وضع إطار تنظيمي جاذب للاستثمارات في هذا القطاع ، مع التركيز على تطوير برنامج متكامل لإنتاج الأمونيا الخضراء.
كما وأقترح إنشاء منصة بحث وتطوير متخصصة في مجال الهيدروجين الأخضر، تهدف إلى بناء القدرات المحلية وتطوير الصناعة المحلية بمنتجات وخدمات عالية الكفاءة. 
هذه المنصة ستكون بمثابة مركز للتعاون بين الشركات والشبكات البحثية، لبناء القدرات المحلية من خلال تدريب الكوادر الفنية والهندسية في مجال تقنيات الهيدروجين والطاقة المتجددة، وذلك من خلال برامج تعليمية وتدريبية بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات الدولية .

*التوصيات:*  

-لضمان إنجاح هذه السياسات، يوصى أن يقود هذه التطورات الخضراء المستثمرين الوطنيين والإقليميين والدوليين ، مع مراعات الحفاظ على البيئة وضمان استخدام مصادر الطاقة المتجددة طوال عملية إنتاج الهيدروجين. 
-يجب الاعتماد على تحلية مياه البحر كحل مستدام ،نظرا لندرة المياه العذبة واستنزافها في مثل هذه المشاريع ، خاصة إذا كانت أنظمة التبريد تعتمد على المياه ، لضمان استدامة الموارد وحماية المخزون المائي .
-يجب وضع إنتاج الهيدروجين الأخضر في قلب التحول الاجتماعي والاقتصادي نحو الاستدامة، مع التأكد من مطابقة الشروط الدولية على منشآت الهيدروجين. 
-يجب تشجيع أصحاب الأعمال على دعم الخطط الوطنية الطموحة للهيدروجين الأخضر، مع وضع معالم واضحة وجداول زمنية للتنفيذ.
-يجب إنشاء شراكات طويلة الأمد مع مراكز الطلب الرئيسية على الهيدروجين الأخضر، والاستفادة من التجربة الحالية وقصص النجاح في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. 
-يجب بناء خطة بيئية شاملة للحد من الانبعاثات، واستحداث هياكل ضريبية مواتية لمشاريع الهيدروجين الأخضر لتحفيز النمو والقدرة التنافسية.

وختاما فإن تطوير قطاع الهيدروجين الأخضر في موريتانيا يفتح فرصة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز مكانة البلد  كمركز إقليمي للطاقة النظيفة.
وذلك من خلال تنفيذ السياسات والتوصيات المذكورة أعلاه. فموريتانيا يمكن أن تضع نفسها على خارطة العالم كدولة رائدة في مجال الهيدروجين الأخضر، مع ضمان أن تكون هذه الجهود مستدامة ومفيدة وطنيا وإقليميا ودوليا.
آمل أن يتم تبني هذه الرؤية والعمل عليها بشكل جاد لتحقيق مستقبل أخضر وازدهار للجميع .

الشيخ محمد الجيد
مهندس في الطاقات المتجددة وتطبيقاتها