خِطابُ التَّفاهَةِ مِن اِنحِرافٍ ثَقافِيٍّ إلى نِظامٍ مُعَولَمٍ

هذا العُنوانُ لا يُحيلُ فَقَط إلى ظاهِرَةٍ إعلاميَّةٍ أو سُلوكٍ اِجتِماعِيٍّ مُنْفَلِت، بَلْ إلى تَحَوُّلٍ حَضارِيٍّ يُعِيدُ تَشكِيلَ عَلاقتِنا بالمَعْنَى وَبالقِيمَةِ وَبالجِدِّيَّةِ وَبالنَّجاحِ ذاتِه.
لَقَد دَخَلَ العالَمُ عَصرًا لَم تَعُد فِيهِ التَّفاهَةُ مُجرَّدَ اِنحِرافٍ ثَقافِيٍّ، بَلْ أَصبَحَت مَنظومَةَ إِنتاجٍ وَقِيَمٍ وَتَموِيلٍ وَتَرفِيهٍ، تُصنَعُ وَتُسَوَّقُ وَتُفرَضُ بوصْفِها نَمَطًا طَبيعِيًّا لِلحُضورِ الاِجتِماعِيّ.
عَصرٌ تُختَصَرُ فيهِ الفِكرَةُ إلى صُورَة، وَالوَعْيُ إلى تَعليق، وَالنَّجاحُ إلى عَدَدِ مُشاهَدات، وَتَتَحَوَّلُ فيهِ الشُّهرَةُ إلى غايَةٍ بِذاتِها حَتّى لو خَلَت مِن مَضمُون.
١ — التَّفاهَةُ كَمُنتَجٍ لا كَظاهِرَة
التَّفاهَةُ اليَومَ تُصنَعُ كَما تُصنَعُ السِّلَع:
تُعبَّأ، تُصدَّر، تُسوَّق، وَتُفرَضُ عَبْرَ خَوارِزميّاتٍ وَمَنَصّاتٍ وَمُحتوًى مَبنيٍّ على الإثارَةِ لا على القِيمَة.
إنَّها لَيْسَت سُلوكًا فَردِيًّا، بَل صِناعَةٌ عالَمِيَّةٌ تَعتمِدُ على:
- تَهييجِ الغرائِزِ بَدَلَ بِنَاءِ الوعي
- تَحويلِ المُتَلَقِّي مِن مُواطِنٍ إلى مُستَهلِك
- تَهميشِ المُحتَوَى العَميقِ لِصالِحِ المُحتَوَى السَّريع
- اِحتِقارِ المعرِفَة لِصالِحِ الاِنفِعال

٢ — التَّفاهَةُ كَسُلْطَةٍ وَمِعيار
الخَطَرُ لَيْسَ في اِنْتِشارِ السَّطحِيَّةِ فَقَط، بَلْ في تَحَوُّلِها إلى مِعيارٍ يُقاسُ بِهِ النَّجاح.
حِينَ يُصبِحُ الصَّوتُ الأعلَى أَهَمَّ مِن الفِكرَةِ الأقوَى، وَحِينَ تُصبِحُ المُشاهَداتُ أَهَمَّ مِن الحَقيقَة، نَدخُلُ مَرحَلَةَ هَيْمَنَةِ التَّفاهَةِ، لا مُجرَّدِ ظُهورِها.

٣ — لِماذا تَنتَشِرُ التَّفاهَة؟
- اِقتِصادُ الاِنتِباه: الرِّبْحُ يَتبَعُ عَدَدَ الثَّوانِي على الشَّاشَةِ لا قِيمَةَ المُحتوَى
- تَصَحُّرُ المَشروعِ الحَضارِيّ: حِينَ يَغيبُ الهَدَفُ يَسهُلُ إشغالُ النّاسِ بالفارِغ
- غِيابُ القُدوَة: حِينَ تَتوارَى الشَّخصيّاتُ الجادَّةُ يَتَصَدَّرُ المَشهَدَ مَن يَملَأُ الفَراغ

٤ — السِّياقُ المُوريتانِيّ وَالعَرَبِيّ:
لَسنا استِثناءً مِن هذا النَّسَق؛
بَل إنَّ الفَضاءَ الرَّقمِيَّ عِندَنا بَاتَ في كَثيرٍ مِن الأحيَانِ مَجالًا لِتَضخيمِ الذَّاتِ، وَتوليدِ خُصومَاتٍ وَهمِيَّةٍ، وَإدارَةِ مَعَارِكٍ لا أَثَرَ لَها في الواقِع.
وهُنا تَظهَرُ مُفارَقَةٌ خَطِيرَةٌ:
شَخصٌ يَحصُلُ على هاتِفٍ ذَكِيٍّ بِشِقِّ الأنفُس — وَأحيانًا بِطُرُقٍ غَيرِ نَزِيهَة — ثُمَّ يُعانِي يَوميًّا لِتَوفيرِ ثَمَنِ باقَةِ إنترنت مُحدودَة.
لَكِن بَدَلَ استِثمارِ تِلكَ المَواردِ النّادِرَةِ في التَّعلُّمِ أو اكتِسابِ مَهارَةٍ أو بِنَاءِ مَشروع… يَغرَقُ في فَضاءٍ افتراضِيٍّ يُعِيدُ تَشكِيلَ ذاتِهِ بِصُورَةٍ مُتَضَخِّمَةٍ، فَيَتَصَوَّرُ نَفسَهُ "عَمُودًا مِن أعمِدَةِ الكَون."
وعلى شاشَةٍ لا تتَجاوَزُ بُضعَ سَنتيمِترات، يَتَحَوَّلُ فَجأةً إلى:
- مُحَلِّلٍ سِياسِيّ
- وَمُفتٍ اِجتِماعِيّ
- وَ شرطي ، و كيل جمهوريه، مدعي عام ، قاضي تحقيق، محكمه متكامله تدين أو تبرأ ، ملك يرفض أحكام المحاكم التي توافق مصالحه المتقلبه 
- وَناطِقٍ باسمِ "الشَّعب" وَ"الدَّولة" وَ"القَبيلَة"
- يَسُبّ هذا، وَيَقذِفُ ذاك، وَيَمْنَحُ صُكوكَ الوَطَنِيَّة، وَيُحاكِمُ المُكوِّنات، وَيُقسِّمُ "الحَسَناتِ وَالسَّيِّئات"، دون وعيٍ بأنَّ تِلكَ البُطولَةَ الاِفتراضِيّة تَعويضٌ نَفسيٌّ عن عَجزٍ واقِعيٍّ عن الإِنتاجِ وَالبِناء.
إنَّهُ نَمُوذَجٌ لِإنسانٍ فَقَدَ المَعْنَى الحَقيقِيّ فاستَعاضَ عنهُ بِصُورَةٍ مُتَضَخِّمَةٍ على الشاشَة.
٥ — مِنَ النَّقدِ إلى الفِعل (أمثِلَة عَمَلِيَّة)
مُواجَهَةُ التَّفاهَةِ لا تَكونُ بِالمَوَاعِظِ فَقَط، بَل بِبِناءِ بَدائِلَ تُنتِجُ المَعْنَى وَتَخلُقُ القِيمَة.
٦ — ما العَمَل؟ (رُؤيَةٌ اِستِراتِيجِيَّة): 
1.  صِناعَةُ مُحتَوَى يُنافِسُ، لا يَشتَكِي
البَديلُ القَيِّمُ يَجِبُ أن يَكونَ جَذَّابًا وَمِهنِيًّا وَقادِرًا على المُنافَسَة.
2.  تَموِيلُ الجَودَة
المُحتَوَى الجَيِّدُ لا يَعيشُ على النَّوايا الحَسَنَة، بَل يَحتاجُ اِقتِصادًا يُوازِي التَّفاهَة.
3.  إِعادَةُ الاِعتِبارِ لِلرُّموزِ وَالقُدُوات
مِن دونِ نَماذِجَ مُلهِمَة، سَيَتَكَلَّمُ الفَراغ.
4.  تَحصِينُ العَقلِ بِالنَّقدِ وَالتَّحليل
لا يَكفِي مَنعُ التَّفاهَة، بَل يَجِبُ كَشفُ آليّاتِها وَمَفاعِيلِها.
لَسنا ضِدَّ الفَرَحِ وَلا التَّرفِيهِ وَلا الخِفَّةِ الجَميلَة؛
بَل ضِدَّ عَولَمَةِ الفَراغ الَّتي تَجعَلُ الإِنسانَ مُجرَّدَ مُستَهلِكٍ لا فاعِل، وَصاحِبَ رَأيٍ بِلا مَعرِفَة، وَبَطَلًا اِفتراضِيًّا وَعاجِزًا واقِعِيًّا.
"حِينَ تُصبِحُ القِيمَةُ رائِجَة… وَتَنخَفِضُ تَكلِفَةُ الوُصولِ إلى المَعْنَى… تَتَراجَعُ التَّفاهَةُ بِلا صِراع".
أحمَد خَطَّري
المُديرُ العامُّ لِشَرِكَةِ نُجوم موريتانيا